266 - فصل
[ فيما ينقض العهد الإمام أبي حنيفة ] . مذهب
وأما أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى فقالوا : لا ينتقض العهد إلا بأن يكون لهم منعة فيمتنعون من الإمام ويمنعون الجزية ولا يمكنه إجراء الأحكام عليهم .
فأما إذا امتنع الواحد منهم عن أداء الجزية أو فعل شيئا من هذه الأشياء التي فيها ضرر على المسلمين أو غضاضة على الإسلام لم يصر ناقضا للعهد ، لكن من أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل والتلوط وسب الذمي لله ورسوله وكتابه ونحو ذلك ، إذا تكرر فعلى الإمام أن يقتل فاعله تعزيرا .
[ ص: 1376 ] وله أن يزيد على الحد المقدر فيه إذا رأى المصلحة في ذلك ، ويحملون ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأى المصلحة في ذلك ويسمونه القتل سياسة ، وكان حاصله أن للإمام أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تغلظت بالتكرار ، وشرع القتل في جنسها ، ولهذا أفتى أكثر أصحابهم بقتل من أكثر من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة وإن أسلم بعد أخذه .
وقالوا : يقتل سياسة ، وهذا متوجه على أصولهم .
قال القاضي في " التعليق " : والدلالة على أن نقض العهد يحصل بهذه الأشياء - وإن لم يشترطه في عقد الذمة - أن الإمام يقتضي الكف عن الإضرار وفي هذه الأشياء إضرار ، فيجب أن ينتقض العهد بفعلها كما لو شرط ذلك في عقد الأمان .
قال : ولأن عقد الذمة عقد أمان فانتقض بالمخالفة من غير شرط كالهدنة .
[ ص: 1377 ] [ ] . الأدلة من كتاب الله على وجوب قتل الساب وانتقاض عهده
الدليل الثاني : قلت : واحتج غيره من الأصحاب بوجوه أخر سوى ما ذكره منها قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) فلا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطاء الجزية .
والمراد بإعطاء الجزية من حين بذلها أو التزامها إلى حين تسليمها وإقباضها ، فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكف عنهم إلى أن نقبضها منهم ، فمتى لم يلتزموها أو التزموها وامتنعوا من تسليمها لم يكونوا معطين لها ، فليس المراد أن يكونوا صاغرين حال تناول الجزية منهم فقط ، ويفارقهم الصغار فيما عدا هذا الوقت ، هذا باطل قطعا .
[ ص: 1378 ] وإذا علم هذا فمن جاهرنا بسب الله ورسوله وإكراه حريمنا على الزنى وتحريق جوامعنا ودورنا ورفع الصليب فوق رءوسنا ، فليس معه من الصغار شيء ، فيجب قتاله بنص الآية حتى يصير صاغرا .
فإن قيل : فالمأمور به القتال إلى هذه الغاية ، فمن أين لكم القتل المقدور عليه ؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن كل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه .
الثاني : أنا إذا كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها ، ولو عقد لهم [ كان ] عقدا فاسدا .
الثالث : أن الأصل إباحة دمائهم ، يمسك عصمتها الحبلان : حبل من الله بالأمر بالكف عنهم ، وحبل من الناس بالعهد والعقد ، ولم يوجد واحد من الحبلين .
أما حبل الله سبحانه فإنه إنما اقتضى الأمر بالكف عنهم إذا كانوا صاغرين ، فمتى لم يوجد وصف الصغار المقتضي للكف منهم وعنهم ، فالقتل المقدور عليه منهم والقتال للطائفة الممتنعة واجب .
وأما حبل الناس فلم يعاهدهم الإمام والمسلمون إلا على الكف عما فيه إدخال ضرر على المسلمين وغضاضة في الإسلام ، فإذا لم يوجد فلا عهد لهم من الإمام ولا من الله ، وهذا ظاهر لا خفاء به .