الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

روي عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب حين انتهى إلى المدينة: "يا عباس، افد نفسك، وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث ، وحليفك عتبة بن عمرو فإنك ذو مال" ، فقال: يا رسول الله، إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني، فقال: "الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك" ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من الذهب، فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فداي، قال: "لا، ذاك شيء أعطاناه الله منك" ، قال: فإنه ليس لي مال.

قال: " فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد؟ ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا "، قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه، وابني أخيه، وحليفه


وعن ابن إسحاق ، قال: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد ، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه، قال: لما أمسى القوم من يوم بدر والأسارى محبوسين في الوثاق، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهرا أول [ ص: 589 ] ليلة، فقال له أصحابه: يا رسول الله، مالك لا تنام؟ قال: "تضور العباس في وثاقه" . فقاموا إلى العباس فأطلقوه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم  

وعن محمد بن إسحاق ، قال: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة ، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالف، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخذاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا، وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، [ ص: 590 ] إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة، وكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث قد قدم، فقال أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي ما عندك؟ قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء، والله إن كان إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسرون كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: فثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته ضربة، ففلقت رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه بالعدسة فقتلته، فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفنانه حتى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس [ ص: 591 ] الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان إن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه؟ فقالا: إنا نخشى هذه القرحة.

قال: فانطلقا فأنا معكما، فما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه، ثم احتملوه، فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه.

وعن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: "إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم قد أخرجوا كرها فمن لقي منكم أحدا منهم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله، فإنما أخرج مستكرها" .

فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا، وأبناءنا، وإخواننا، وعشيرتنا، ونترك العباس؟ والله لئن لقيناه لألحمنه السيف، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول لعمر بن الخطاب: " يا أبا حفص، أما تسمع إلى قول أبي حذيفة يقول: أضرب وجه عم رسول الله بالسيف "، فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص، قال: فكان أبو حذيفة ، يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، وأنا لا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا
 
[ ص: 592 ] قال أهل التاريخ: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة.

قال أهل التاريخ: مات العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان ، ودفن بالبقيع وجلس عثمان على قبره حتى دفن.  

التالي السابق


الخدمات العلمية