المسألة الثانية : تنازعوا [1] بأنه أوجب على نفسه وحرم على نفسه ، أو لا معنى للوجوب إلا إخباره هل يوصف الله [ تعالى ] [2] بوقوعه ، ولا للتحريم [3] إلا إخباره بعدم وقوعه .
[ ص: 452 ] فقالت طائفة بالقول الثاني ، وهو قول من يطلق أن الله لا يجب عليه شيء ولا يحرم عليه شيء .
وقالت طائفة : بل هو أوجب [4] على نفسه ، وحرم على نفسه كما نطق بذلك الكتاب والسنة في مثل قوله [ تعالى ] [5] كتب ربكم على نفسه الرحمة [ سورة الأنعام : 54 ] وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ سورة الروم : 47 ] وقوله في الحديث الإلهي [ الصحيح ] [6] " " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما [7] .
وأما أن العباد يوجبون عليه ويحرمون عليه فممتنع عند أهل السنة [ كلهم ] [8] . ومن قال : إنه أوجب على نفسه [9] أو حرم على نفسه فهذا الوجوب [10] والتحريم يعلم عندهم بالسمع ، وهل يعلم بالعقل ؟ على قولين لأهل السنة .
وإذا كانت [11] هذه الأقوال كلها معروفة لأهل السنة ، بل لأهل [ ص: 453 ] المذهب الواحد منهم ، كمذهب وغيره من الأئمة أحمد [12] ، ومن قال : إنه أوجب على نفسه أو حرم على نفسه فهم متفقون على أنه لا يخل بما كتبه على نفسه ولا فمن قال من أهل السنة : إن الله لا يجب عليه شيء ولا يحرم عليه شيء امتنع عنده أن يكون مخلا بواجب أو فاعلا لقبيح [13] يفعل ما حرمه على نفسه .
فتبين أنه ليس في أهل السنة من يقول إنه يخل بواجب أو يفعل قبيحا ، لكن هذا المبتدع [14] سلك مسلك أمثاله فحكى [15] عن أهل السنة أنهم يجوزون عليه [ تعالى ] [16] الإخلال بالواجب وفعل القبيح .
وهذا حكاه بطريق الإلزام لإحدى الطائفتين الذين يقولون : لا يجب عليه شيء فله أن يخل بكل شيء ، فقال : هؤلاء يقولون : ( 6 إنه يخل بالواجب ، أي ما هو عندي واجب . وكذلك هؤلاء يقولون 6 ) [17] : لا يقبح منه شيء . فقال : إنهم جوزوا عليه فعل القبيح ، ( 7 أي : فعل ما هو قبيح عندهم 7 ) [18] أو فعل ما هو قبيح من أفعال العباد . فهذا نقل عنهم بطريق الإلزام الذي اعتقدوه [19] .
[ ص: 454 ] وأيضا ، فأهل السنة يؤمنون بالقدر ، وأنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأن الهدى بفضل منه . والقدرية يقولون : إنه يجب عليه أن يفعل بكل عبد ما يظنونه هم واجبا عليه ، ويحرم عليه ضد ذلك ، فيوجبون عليه أشياء ويحرمون [ عليه ] [20] أشياء ، وهو لم يوجبها على نفسه ولا علم وجوبها بشرع ولا عقل ، ثم يحكون عن [21] من لم يوجبها أنه يقول : إن الله يخل بالواجب ، وهذا تلبيس في نقل المذهب وتحريف له .
[ ] وأصل قول هؤلاء القدرية تشبيه الله بخلقه في الأفعال ، فيجعلون ما حسن منه حسن من العبد ، وما قبح من العبد قبح منه ، وهذا تمثيل باطل [22] .