وأما . قوله : " وإلا لكان محدثا " فمضمونه أنه لو كان جسما أو في مكان لكان محدثا
[ فيقال له : قد بينا ما ينفى عنه من معاني الجسم والمكان ، وبينا ما لا يجوز نفيه عنه ، وإن سماه بعض الناس جسما ومكانا ، لكن ما الدليل على أنه لو كان كذلك لكان محدثا ] [1] وأنت [2] لم تذكر دليلا على ذلك ؟
[ ص: 146 ] وكأنه [3] اكتفى بالدليل المشهور الذي يذكره [ سلفه ] وشيوخه [4] المعتزلة : من أنه لو كان جسما لم يخل عن الحركة والسكون ، وما لم يخل [5] عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها . ثم يقولون : ولو [ كان ] قام به [6] علم وقدرة وحياة وكلام [7] ونحو ذلك من الصفات لكان جسما .
وهذا الدليل عنه [8] جوابان : أحدهما : أن يقال [ له : هو ] عندك [9] حي عليم قدير ، ومع هذا فليس بجسم عندك ، مع أنك لا تعلم حيا عليما قديرا [10] إلا جسما فإن كان قولك [11] حقا أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة ، وأن يكون مباينا للعالم عاليا عليه وليس بجسم .
فإن قلت : لا أعقل مباينا عاليا إلا جسما ؛ قيل لك : ولا يعقل حي عليم قدير إلا جسم ، فإن أمكن أن يكون مسمى [12] بهذه الأسماء ما ليس بجسم ، أمكن أن يتصف بهذه الصفات ما ليس بجسم ، وإلا فلا ; لأن الاسم [13] مستلزم للصفة .
[ ص: 147 ] وكذلك إذا قال : لو كان فوق العالم لكان جسما ، ولكان إما أكبر من العالم وإما أصغر وإما مساويا له ، وكل ذلك ممتنع ، فيقال له : إن كثيرا من الناس يقولون : إنه فوق العالم وليس بجسم .
فإذا قال النافي [14] : قول هؤلاء معلوم فساده بضرورة العقل ، قيل له : فأنت تقول : إنه موجود قائم بنفسه ، وليس بداخل في العالم ولا خارج عنه ، ولا مباين له ولا محايث [15] له ، وأنه لا يقرب منه شيء ولا يبعد منه شيء ، [ ولا يصعد إليه شيء ] [16] ولا ينزل منه شيء ، وأمثال ذلك من النفي الذي إذا عرض على الفطرة السليمة جزمت جزما قاطعا أن هذا باطل وأن وجود مثل هذا ممتنع ، وكان جزمها ببطلان هذا أقوى من جزمها ببطلان كونه فوق العالم وليس بجسم .
فإن كان حكم الفطرة السليمة مقبولا وجب بطلان مذهبك ، فلزم أن يكون فوق العالم ، وإن كان مردودا بطل ردك لقول من يقول : إنه فوق العالم وليس بجسم ، فإن الفطرة الحاكمة بامتناع هذا هي الحاكمة بامتناع هذا ، فيمتنع قبول حكمها في أحد الموضعين دون الآخر .