الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وذلك أن هؤلاء النفاة يزعمون أن الحكم بهذا المنع من حكم الوهم المردود لا من حكم العقل المقبول ، ويقولون : إن الوهم هو أن يدرك في المحسوسات [1] ما ليس بمحسوس ، كما تدرك الشاة عداوة الذئب [ ص: 148 ] وتدرك السخلة [2] صداقة أمها ، ويقولون : الحكم الفطري الموجود في قلوب بني آدم ، بامتناع وجود مثل هذا هو حكم الوهم لا حكم العقل [3] ، فإن حكم الوهم إنما يقبل في المحسوسات لا فيما ليس بمحسوس [4] .

                  فيقال لهم : إن كان هذا صحيحا فقولكم : إنه يمتنع أن يكون فوق العالم وليس بجسم هو أيضا من حكم الوهم ; لأنه حكم فيما ليس بمحسوس عندكم ، وكذلك حكمه بأن كل ما يرى [5] فلا بد أن يكون بجهة من الرائي هو حكم الوهم أيضا .

                  وكذلك سائر ما يدعون امتناعه على الرب [ هو ] [6] مثل دعوى امتناع كونه لا مباينا ولا محايثا [7] ، فإن كان حكم الفطرة بهذا الامتناع مقبولا في [ ص: 149 ] شيء من ذلك قبل في نظيره ، وإلا فقبوله في أحد المتماثلين ورده في الآخر تحكم .

                  وهؤلاء بنوا كلامهم على أصول متناقضة ، فإن الوهم عندهم قوة في النفس تدرك في المحسوسات ما ليس بمحسوس ، وهذا الوهم لا يدرك إلا معنى جزئيا لا كليا كالحس والتخيل ، وأما الأحكام الكلية فهي عقلية ، فحكم الفطرة بأن كل موجودين إما متحايثان [8] وإما متباينان ، وبأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما ، وأنه يمتنع وجود ما هو كذلك ، ونحو ذلك ، أحكام كلية عقلية ، ليست أحكاما جزئية شخصية في جسم معين حتى يقال : إنها من حكم الوهم .

                  وأيضا فإنهم يقولون : [ إن ] [9] حكم الوهم فيما ليس بمحسوس باطل ; لأنه إنما يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي ليست محسوسة ، أي : لا يمكن إحساسها ، ومعلوم أن كون رب العالمين لا تمكن رؤيته أو تمكن مسألة مشهورة ، [ فسلف الأمة ] [10] وأئمتها وجمهور نظارها وعامتها على أن الله يمكن رؤيته ورؤية الملائكة والجن وسائر ما يقوم بنفسه ، فإذا ادعى المدعي أنه لا يمكن رؤيته ولا رؤية الملائكة [11] التي يسميها هو [12] المجردات [ ص: 150 ] والنفوس والعقول ، فهو يدعي وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإحساس به بحال .

                  فإذا احتج عليه بالقضايا الفطرية التي تحكم بها الفطرة كما تحكم بسائر القضايا الفطرية ، لم يكن له أن يقول : هذا حكم الوهم فيما ليس بمحسوس ، فلا يقبل ; لأن الوهم إنما يدرك ما في المحسوس ; فإنه يقال له : إنما يثبت أن هذا مما لا يمكن أن يرى ويحس به إذا ثبت أن هذا الحكم باطل ، وإنما يثبت أن هذا الحكم باطل إذا ثبت وجود موجود لا يمكن أن يرى ويحس به ، وأنت لم تثبت هذا الموجود ، إلا بدعواك أن هذا الحكم باطل ، ولم تثبت أن هذا الحكم باطل [13] إلا بدعواك وجود هذا الموجود ، فصار حقيقة قولك دعوى مجردة بلا دليل .

                  فإذا ثبت امتناع رؤيته بإبطال هذا الحكم ، كان هذا دورا ممتنعا ، وكنت قد جعلت الشيء مقدمة في إثبات نفسه ، فإنه يقال لك : لم تثبت إمكان وجود غير محسوس إن لم تثبت بطلان هذا الحكم ، ولا تثبت بطلانه إن لم تثبت موجودا قائما بنفسه لا يمكن رؤيته ولا الإحساس به .

                  فإذا قلت : الوهم يسلم [14] مقدمات تستلزم ثبوت هذا ، قيل لك : ليس الأمر كذلك ، فإنه لم يسلم مقدمة مستلزمة لهذا أصلا ، بل جميع ما ينبني عليه ثبوت إمكان هذا ، وإمكان وجود ما لا يمكن رؤيته ولا يشار إليه ، مقدمات متنازع فيها بين العقلاء ، ليس فيها مقدمة واحدة متفق عليها ، فضلا عن أن تكون ضرورية أو حسية يسلمها الوهم .

                  [ ص: 151 ] ثم يقال لك : إذا جوزت أن يكون في الفطرة حاكمان بديهيان : أحدهما حكمه باطل ، والآخر حكمه حق ، لم يوثق بشيء من حكم الفطرة ، حتى يعلم أن ذلك من حكم الحاكم الحق ، ولا يعرف عن ذلك حتى يعرف أنه ليس من الحكم الباطل ، ولا يعرف أنه باطل حتى تعرف المقدمات البديهية الفطرية ، التي بها يعلم أن ذلك الحكم باطل ، فيلزم من هذا [15] أن لا يعرف شيء بحكم الفطرة ، فإنه لا يعرف الحق حتى يعرف الباطل ، ولا يعرف الباطل حتى يعرف الحق ، فلا يعرف الحق بحال .

                  وأيضا ، فالأقيسة القادحة في تلك الأحكام الفطرية البديهية أقيسة نظرية ، والنظريات مؤلفة من البديهيات ، فلو جاز القدح في البديهيات بالنظريات لزم فساد البديهيات والنظريات ، فإن فساد الأصل يستلزم فساد فرعه ، فتبين أن من سوغ القدح في القضايا البديهية الأولية [ الفطرية بقضايا ] نظرية [16] ، فقوله باطل يستلزم فساد العلوم العقلية بل والسمعية .

                  وأيضا لفظ " الوهم " في اللغة العامة يراد به الخطأ ، وأنت أردت به قوة تدرك ما في الأجسام من المعاني التي ليست محسوسة ، وحينئذ فالحاكم بهذا الامتناع إن كان حكم به في غير جسم فليس هو الوهم ، وإن كان إنما حكم به في جسم فحكمه صادق فيه ، فلم قلت : إن هذا هو حكم الوهم فيما لا يقبل حكمه فيه ؟ .

                  ومعلوم أن ما تحكم به [17] الفطرة السليمة من القضايا الكلية المعلومة [ ص: 152 ] لها ، ليس فيها ما يحصل [18] بعضه من حكم الوهم الباطل ، وبعضه من حكم العقل الصادق ، وإنما يعلم أن الحكم من حكم الوهم الباطل إذا عرف بطلانه ، فأما أن يدعي بطلانه بدعوى كونه من حكم الوهم ، فهذا غير ممكن ، [ وبسط هذه الأمور له موضع آخر ] [19] .

                  والمقصود هنا أن هذا المبتدع وأمثاله من نفاة ما أثبته الله ورسوله لنفسه من معاني الأسماء والصفات من الجهمية والمعتزلة ، ومن وافقهم من المتفلسفة والرافضة [ وغيرهم ] [20] ، لا يعتمدون فيما يقولونه على دليل صحيح لا سمعي ولا عقلي .

                  أما السمعيات فليس معهم نص واحد يدل على قولهم [ لا قطعا ولا ظاهرا ] [21] ، ولكن نصوص الكتاب والسنة متظاهرة على نقيض [22] قولهم ، ودالة على ذلك أعظم من دلالتها على المعاد والملائكة وغير ذلك مما أخبر الله به رسوله ، ولهذا سلط الله عليهم [23] الدهرية المنكرون للقيامة ولمعاد الأبدان ، وقالوا : إذا جاز لكم أن تتأولوا ما ورد في الصفات ، جاز لنا أن نتأول ما ورد في المعاد ، وقد أجابوهم بأنا قد علمنا ذلك بالاضطرار من دين الرسول .

                  [ ص: 153 ] فقال لهم أهل الإثبات : وهكذا العلم بالصفات [24] في الجملة هو مما يعلم بالضرورة مجيء الرسول به ، وذكره في الكتاب والسنة أعظم من ذكر الملائكة والمعاد ، مع أن المشركين من العرب لم تكن تنازع فيه كما كانت تنازع في المعاد ، مع أن التوراة مملوءة من ذلك ، ولم ينكره الرسول على اليهود كما أنكر عليهم ما حرفوه وما وصفوا به الرب من النقائص كقولهم : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ سورة آل عمران : 181 ] ، و ( يد الله مغلولة ) [ سورة المائدة : 64 ] [ ونحو ذلك ] [25] ، وذلك مما يدل على أن الله [26] أظهر في السمع والعقل من المعاد ، فإذا كانت نصوص المعاد لا [ يجوز ] [27] تحريفها فهذا بطريق الأولى ، وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر [28] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية