وذلك أن هؤلاء النفاة يزعمون أن الحكم بهذا المنع من حكم الوهم المردود لا من حكم العقل المقبول ، ويقولون : إن الوهم هو أن يدرك في المحسوسات [1] ما ليس بمحسوس ، كما تدرك الشاة عداوة الذئب [ ص: 148 ] وتدرك السخلة [2] صداقة أمها ، ويقولون : الحكم الفطري الموجود في قلوب بني آدم ، بامتناع وجود مثل هذا هو حكم الوهم لا حكم العقل [3] ، فإن حكم الوهم إنما يقبل في المحسوسات لا فيما ليس بمحسوس [4] .
فيقال لهم : إن كان هذا صحيحا فقولكم : إنه يمتنع أن يكون فوق العالم وليس بجسم هو أيضا من حكم الوهم ; لأنه حكم فيما ليس بمحسوس عندكم ، وكذلك حكمه بأن كل ما يرى [5] فلا بد أن يكون بجهة من الرائي هو حكم الوهم أيضا .
وكذلك سائر ما يدعون امتناعه على الرب [ هو ] [6] مثل دعوى امتناع كونه لا مباينا ولا محايثا [7] ، فإن كان حكم الفطرة بهذا الامتناع مقبولا في [ ص: 149 ] شيء من ذلك قبل في نظيره ، وإلا فقبوله في أحد المتماثلين ورده في الآخر تحكم .
وهؤلاء بنوا كلامهم على أصول متناقضة ، فإن الوهم عندهم قوة في النفس تدرك في المحسوسات ما ليس بمحسوس ، وهذا ، فحكم الفطرة بأن كل موجودين إما متحايثان الوهم لا يدرك إلا معنى جزئيا لا كليا كالحس والتخيل ، وأما الأحكام الكلية فهي عقلية [8] وإما متباينان ، وبأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما ، وأنه يمتنع وجود ما هو كذلك ، ونحو ذلك ، أحكام كلية عقلية ، ليست أحكاما جزئية شخصية في جسم معين حتى يقال : إنها من حكم الوهم .
وأيضا فإنهم يقولون : [ إن ] [9] حكم الوهم فيما ليس بمحسوس باطل ; لأنه إنما يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي ليست محسوسة ، أي : لا يمكن إحساسها ، ومعلوم أن كون رب العالمين لا تمكن رؤيته أو تمكن مسألة مشهورة ، [ فسلف الأمة ] [10] وأئمتها وجمهور نظارها وعامتها على ، فإذا ادعى المدعي أنه لا يمكن رؤيته ولا رؤية الملائكة أن الله يمكن رؤيته ورؤية الملائكة والجن وسائر ما يقوم بنفسه [11] التي يسميها هو [12] المجردات [ ص: 150 ] والنفوس والعقول ، فهو يدعي وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإحساس به بحال .
فإذا احتج عليه بالقضايا الفطرية التي تحكم بها الفطرة كما تحكم بسائر القضايا الفطرية ، لم يكن له أن يقول : هذا حكم الوهم فيما ليس بمحسوس ، فلا يقبل ; لأن الوهم إنما يدرك ما في المحسوس ; فإنه يقال له : إنما يثبت أن هذا مما لا يمكن أن يرى ويحس به إذا ثبت أن هذا الحكم باطل ، وإنما يثبت أن هذا الحكم باطل إذا ثبت وجود موجود لا يمكن أن يرى ويحس به ، وأنت لم تثبت هذا الموجود ، إلا بدعواك أن هذا الحكم باطل ، ولم تثبت أن هذا الحكم باطل [13] إلا بدعواك وجود هذا الموجود ، فصار حقيقة قولك دعوى مجردة بلا دليل .
فإذا ثبت امتناع رؤيته بإبطال هذا الحكم ، كان هذا دورا ممتنعا ، وكنت قد جعلت الشيء مقدمة في إثبات نفسه ، فإنه يقال لك : لم تثبت إمكان وجود غير محسوس إن لم تثبت بطلان هذا الحكم ، ولا تثبت بطلانه إن لم تثبت موجودا قائما بنفسه لا يمكن رؤيته ولا الإحساس به .
فإذا قلت : الوهم يسلم [14] مقدمات تستلزم ثبوت هذا ، قيل لك : ليس الأمر كذلك ، فإنه لم يسلم مقدمة مستلزمة لهذا أصلا ، بل جميع ما ينبني عليه ثبوت إمكان هذا ، وإمكان وجود ما لا يمكن رؤيته ولا يشار إليه ، مقدمات متنازع فيها بين العقلاء ، ليس فيها مقدمة واحدة متفق عليها ، فضلا عن أن تكون ضرورية أو حسية يسلمها الوهم .
[ ص: 151 ] ثم يقال لك : إذا جوزت أن يكون في الفطرة حاكمان بديهيان : أحدهما حكمه باطل ، والآخر حكمه حق ، لم يوثق بشيء من حكم الفطرة ، حتى يعلم أن ذلك من حكم الحاكم الحق ، ولا يعرف عن ذلك حتى يعرف أنه ليس من الحكم الباطل ، ولا يعرف أنه باطل حتى تعرف المقدمات البديهية الفطرية ، التي بها يعلم أن ذلك الحكم باطل ، فيلزم من هذا [15] أن لا يعرف شيء بحكم الفطرة ، فإنه لا يعرف الحق حتى يعرف الباطل ، ولا يعرف الباطل حتى يعرف الحق ، فلا يعرف الحق بحال .
وأيضا ، فالأقيسة القادحة في تلك الأحكام الفطرية البديهية أقيسة نظرية ، والنظريات مؤلفة من البديهيات ، فلو جاز القدح في البديهيات بالنظريات لزم فساد البديهيات والنظريات ، فإن فساد الأصل يستلزم فساد فرعه ، فتبين أن [16] ، فقوله باطل يستلزم فساد العلوم العقلية بل والسمعية . من سوغ القدح في القضايا البديهية الأولية [ الفطرية بقضايا ] نظرية
وأيضا لفظ " الوهم " في اللغة العامة يراد به الخطأ ، وأنت أردت به قوة تدرك ما في الأجسام من المعاني التي ليست محسوسة ، وحينئذ فالحاكم بهذا الامتناع إن كان حكم به في غير جسم فليس هو الوهم ، وإن كان إنما حكم به في جسم فحكمه صادق فيه ، فلم قلت : إن هذا هو حكم الوهم فيما لا يقبل حكمه فيه ؟ .
ومعلوم أن ما تحكم به [17] الفطرة السليمة من القضايا الكلية المعلومة [ ص: 152 ] لها ، ليس فيها ما يحصل [18] بعضه من حكم الوهم الباطل ، وبعضه من حكم العقل الصادق ، وإنما يعلم أن الحكم من حكم الوهم الباطل إذا عرف بطلانه ، فأما أن يدعي بطلانه بدعوى كونه من حكم الوهم ، فهذا غير ممكن ، [ وبسط هذه الأمور له موضع آخر ] [19] .
والمقصود هنا أن هذا المبتدع وأمثاله من نفاة ما أثبته الله ورسوله لنفسه من معاني الأسماء والصفات من الجهمية والمعتزلة ، ومن وافقهم من المتفلسفة والرافضة [ وغيرهم ] [20] ، لا يعتمدون فيما يقولونه على دليل صحيح لا سمعي ولا عقلي .
أما السمعيات فليس معهم نص واحد يدل على قولهم [ لا قطعا ولا ظاهرا ] [21] ، ولكن نصوص الكتاب والسنة متظاهرة على نقيض [22] قولهم ، ودالة على ذلك أعظم من دلالتها على المعاد والملائكة وغير ذلك مما أخبر الله به رسوله ، ولهذا سلط الله عليهم [23] الدهرية المنكرون للقيامة ولمعاد الأبدان ، وقالوا : إذا جاز لكم أن تتأولوا ما ورد في الصفات ، جاز لنا أن نتأول ما ورد في المعاد ، وقد أجابوهم بأنا قد علمنا ذلك بالاضطرار من دين الرسول .
[ ص: 153 ] فقال لهم أهل الإثبات : وهكذا العلم بالصفات [24] في الجملة هو مما يعلم بالضرورة مجيء الرسول به ، وذكره في الكتاب والسنة أعظم من ذكر الملائكة والمعاد ، مع أن المشركين من العرب لم تكن تنازع فيه كما كانت تنازع في المعاد ، مع أن التوراة مملوءة من ذلك ، ولم ينكره الرسول على اليهود كما أنكر عليهم ما حرفوه وما وصفوا به الرب من النقائص كقولهم : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ سورة آل عمران : 181 ] ، و ( يد الله مغلولة ) [ سورة المائدة : 64 ] [ ونحو ذلك ] [25] ، وذلك مما يدل على أن الله [26] أظهر في السمع والعقل من المعاد ، فإذا كانت نصوص المعاد لا [ يجوز ] [27] تحريفها فهذا بطريق الأولى ، وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر [28] .