والجواب الثاني : [1] أن يقال : هذا الدليل قد عرف ضعفه ; لأنه إذا كان هذا الحادث ليس بدائم ، وهذا ليس بدائم باق ، يجب أن يكون نوع الحوادث ليست بدائمة [2] باقية كما أنه إذا كان هذا الحادث ليس بباق ، [ وهذا الحادث ليس بباق ] [3] ، يجب أن يكون نوع الحوادث ليس بباق .
[ ص: 154 ] بل هي باقية دائمة في المستقبل في الكتاب [4] والسنة وإجماع سلف الأمة وجمهورها [5] ، كما قال تعالى : ( أكلها دائم وظلها ) [ سورة الرعد : 35 ] ، والمراد دوام نوعه [6] ، لا دوام كل فرد فرد .
قال تعالى : ( لهم فيها نعيم مقيم ) [ سورة التوبة : 21 ] ، والمقيم هو نوعه . وقال : ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) [ سورة ص : 54 ] ، والمراد أن نوعه لا ينفد وإن كان كل جزء منه ينفد ، أي : ينقضي وينصرم [7] .
وأيضا فإن ذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب ، وذلك ممتنع في صريح العقل . وهذا الدليل هو أصل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه ; لأنهم رأوه باطلا لا يقيم حقا ولا يهدم باطلا ، [ وقد تقدم الكلام على هذا في مسألة الحدوث ] [8] .
وتمام كشف [9] ذلك أن نقول في : الوجه الخامس [10] : إن الناس عليهم أن يؤمنوا بالله ورسوله ، فيصدقوه فيما أخبر ، ويطيعوه فيما أمر فهذا أصل السعادة وجماعها .
[ ص: 155 ] والقرآن كله يقرر هذا الأصل قال تعالى : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ سورة البقرة : 1 - 5 ] ، فقد وصف سبحانه بالهدى والفلاح المؤمنين الموصوفين في هذه الآيات .
وقال تعالى لما أهبط آدم من الجنة : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) [ سورة طه : 123 - 126 ] ، فقد أخبر أن من اتبع الهدى الذي أتانا منه ، وهو ما جاءت به الرسل ، فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكره ، وهو الذكر الذي أنزله ، وهو كتبه التي بعث بها رسله [11] ، بدليل أنه قال بعد ذلك : ( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) .
والذكر مصدر يضاف تارة [12] إلى الفاعل وتارة إلى المفعول ، كما يقال : دق الثوب ، ودق القصار [13] ، ويقال [14] : أكل زيد ، وأكل الطعام ، [ ص: 156 ] ويقال : ذكر الله أي : ذكر العبد لله [15] ، ويقال : ذكر الله أي : ذكر الله الذي ذكره هو مثل ذكره عبده [16] ، ومثل القرآن الذي هو [17] ذكره .
وقد يضاف الذكر إضافة الأسماء المحضة ، فقوله : ( ذكري ) إن أضيف إضافة المصادر كان [18] المعنى : الذكر الذي ذكرته ، وهو كلامه الذي أنزله ، وإن أضيف إضافة الأسماء المحضة ، فذكره هو ما اختص به من الذكر ، والقرآن مما [19] اختص به من الذكر .
قال تعالى : ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) [ سورة الأنبياء : 50 ) وقال : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) [ سورة الأنبياء : 2 ] ، وقال : ( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) [ سورة يس : 69 ] ، وقال : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ سورة النحل : 44 ] ، وقال فيما يذكره من [20] ضمان الهدى والفلاح لمن اتبع الكتاب والرسول : ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) [ سورة الأعراف : 157 ] ، وقال : ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) [ سورة إبراهيم : 1 ] ، ونظائره في القرآن كثيرة .