وإذا كان كذلك ، من [ ص: 157 ] إثبات أسمائه وصفاته على وجه التفصيل ، والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل ، فالرب تعالى فالله سبحانه بعث الرسل بما يقتضي الكمال [1] موصوف بصفات الكمال [ التي لا غاية فوقها ، منزه عن النقص بكل وجه ممتنع ، وأن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال ] [2] ، فأما [3] فيها شيء من الأشياء . صفات النقص فهو منزه عنها مطلقا وأما صفات الكمال فلا يماثله - بل ولا يقاربه -
: نفي النقص ، ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال ، كما دل على ذلك سورة : ( والتنزيه يجمعه نوعان قل هو الله أحد ) وغيرها [ من القرآن ] [4] ، مع دلالة العقل على ذلك ، وإرشاد القرآن إلى ما يدل على ذلك من العقل ، بل وقد أخبر الله أن في الآخرة من أنواع النعيم ما له شبه [5] في الدنيا ، كأنواع المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وغير ذلك ، وقد قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ابن عباس [6] ، فحقائق تلك [ ص: 158 ] أعظم من حقائق هذه بما [7] لا يعرف قدره ، وكلاهما مخلوق ، والنعيم [ الذي ] [8] لا يعرف جنسه قد أجمله الله [ سبحانه وتعالى ] [9] بقوله : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) [ سورة السجدة : 17 ] .
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ أنه ] [10] قال : " [11] لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " يقول الله تعالى : أعددت
[12] فإذا كان هذان المخلوقان متفقين في الاسم مع أن بينهما في الحقيقة [ ص: 159 ] تباينا لا يعرف في الدنيا قدره [13] ، فمن المعلوم أن ، أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق ، ولهذا قال أعلم ما يتصف به الرب من صفات الكمال مباين لصفات خلقه [14] الخلق بالله في [ الحديث ] الصحيح [15] : " " لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك [16]
وقال في الدعاء [ المأثور ] [17] الذي رواه أحمد في صحيحه ، عن وابن حبان - رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ابن مسعود [18] وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته [19] أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب [ ص: 160 ] عندك أن تجعل القرآن [20] ربيع قلبي ، ونور صدري [21] ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ; إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكان حزنه فرحا [22] " . قالوا : يا رسول الله ! أفلا نتعلمهن ؟ قال : بلى ، ينبغي لكل من سمعهن أن يتعلمهن " ما أصاب عبدا هم قط ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك [ ابن عبدك ] [23] فبين [24] أن لا يعلمها ملك ولا نبي . لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده
وأسماؤه تتضمن صفاته ، ليست أسماء أعلام محضة ، كاسمه : العليم ، والقدير ، والرحيم ، والكريم ، والمجيد ، والسميع ، والبصير ، وسائر أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى .
وهو سبحانه مستحق للكمال المطلق ; لأنه واجب الوجود بنفسه ، يمتنع العدم عليه ، ويمتنع [25] أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه ، إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه كان محتاجا إلى الغير ، والحاجة إما إلى [26] حصول كمال له ، وإما إلى دفع ما ينقص كماله ، ومن احتاج [ ص: 161 ] في شيء من كماله إلى غيره لم يكن كماله موجودا بنفسه ، بل بذلك الغير ، وهو بدون ذلك الكمال ناقص ، والناقص لا يكون واجبا بنفسه ، بل ممكنا مفتقرا إلى غيره ; لأنه لو كان واجبا بنفسه مع كونه ناقصا مفتقرا إلى كمال من غيره ، لكان الذي يعطيه الكمال : إن كان ممكنا فهو مفتقر إلى واجب آخر ، والقول في هذا كالقول في الأول ، وإن كان واجبا ناقصا ، فالقول فيه كالقول في الأول ; وإن كان واجبا كاملا فهذا هو الواجب بنفسه ، وذاك الذي قدر واجبا ناقصا فهو مفتقر إلى هذا في كماله ، وذاك [27] غني عنه ، فهذا هو رب ذاك ، وذاك عبده ، ويمتنع مع كونه مربوبا معبدا أن يكون واجبا ، ففرض كونه واجبا ناقصا محال .
وأيضا ، فيمتنع أن يكون نفس ما هو واجب بنفسه فيه نقص يفتقر في زواله إلى غيره ; لأن ذلك النقص حينئذ يكون ممكن الوجود وإلا لما قبله ، وممكن العدم وإلا لكان لازما له لا يقبل الزوال ، والتقدير أنه ممكن [28] زواله بحصول الكمال الممكن الوجود ، فإن ما هو ممتنع لا يكون كمالا ، وما هو ممكن : فإما أن يكون للواجب أو من الواجب ، ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق ، فالخالق [29] الواجب بنفسه أحق بالكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه ، فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال ; فيكون ذلك الكمال - إذا وجد - مفتقرا إليه وإلى ذلك الغير الآخر ، يحصل بهما جميعا ، وكل منهما واجب بنفسه فلا يكون [ ص: 162 ] ذلك الأثر لا من هذا ولا من هذا ، بل هو شيء [30] منفصل عنهما .
وتحقيق ذلك أن كمال الشيء هو من نفس الشيء وداخل فيه ، فالواجب بنفسه لا يكون واجبا إن لم يكن ما هو داخل [31] في نفسه واجب الوجود لا يفتقر فيه إلى سبب منفصل عنه ، فمتى افتقر فيما هو داخل فيه إلى سبب منفصل عنه لم تكن نفسه واجبة بنفسه ، وما لا يكون داخلا في نفسه ، لا يكون من كماله أيضا ، بل يكون شيئا مباينا له ، وإنما يكون ذلك شيئين : أحدهما واجب بنفسه والآخر شيء قرن به وضم إليه .
وأيضا ، فنفس واجب الوجود هو أكمل الموجودات ، إذ الواجب أكمل من الممكن بالضرورة ، فكل كمال ممكن له : إن كان لازما له امتنع أن يكون كماله مستفادا من غيره ، أو أن [32] يحتاج فيه إلى غيره .
وإن لم يكن لازما له : فإن لم يكن قابلا له من قبول غيره من الممكنات له ، كان الممكن أكمل من الواجب ، وما لا يقبله [ لا ] [33] واجب ولا ممكن ليس كمالا ; وإن كان قابلا له ولم تكن ذاته مستلزمة [34] له ، كان غيره معطيا له إياه ، والمعطي للكمال هو أحق بالكمال ، فيكون ذلك المعطي أكمل منه ، وواجب الوجود لا يكون غيره أكمل منه .
وإذا قيل : ذلك الغير واجب أيضا .
[ ص: 163 ] فإن لم يكن كاملا بنفسه كان كل منهما معطيا للآخر الكمال ، وهذا ممتنع ; [ لأنه ] [35] يستلزم كون كل من الشيئين مؤثرا في الآخر أثرا لا يحصل إلا بعد تأثير الآخر ، فإن هذا لا يفيد ذلك الكمال للآخر حتى يكون كاملا ، ولا يكون كاملا حتى يفيده الآخر الكمال ، وهذا ممتنع ، كما يمتنع أن لا يوجد هذا حتى يوجده [36] ذاك ، ولا يوجد ذاك حتى يوجده هذا .
وإن كان ذلك الغير واجبا كاملا بنفسه مكملا لغيره [37] ، والآخر واجب ناقص يحتاج في كماله إلى ذلك الكامل المكمل ، كان جزء منه مفتقرا إلى ذاك ; وما افتقر جزء منه إلى غيره لم تكن جملته واجبة بنفسها .
وإيضاح ذلك : أن الواجب بنفسه : إما أن يكون شيئا واحدا لا جزء له ، أو يكون أجزاء . فإن كان شيئا واحدا لا جزء له ، امتنع أن يكون له بعض ، فضلا عن أن يقال : بعضه يفتقر إلى الغير وبعضه لا يفتقر إلى الغير ، وامتنع أن يكون شيئين : أحدهما نفسه ، والآخر كماله .
وإن قيل : هو جزءان أو أجزاء ، كان الواجب هو مجموع تلك الأجزاء ، فلا يكون واجبا بنفسه حتى يكون المجموع واجبا بنفسه ، ( * فمتى كان البعض مفتقرا إلى سبب منفصل عن المجموع لم يكن واجبا بنفسه * ) [38]
[ ص: 164 ] وهذا المقام برهان بين لمن تأمله . وبيانه أن الناس متنازعون في إثبات الصفات لله : ، وكثير من الفلاسفة فأهل السنة يثبتون الصفات لله والشيعة يوافقهم على ذلك ، وأما الجهمية وغيرهم - كالمعتزلة [39] الشيعة والفلاسفة ونحوه - فإنهم ينفون الصفات عن الله كابن سينا تعالى ، ويقولون : ومن وافقهم من [40] : إن إثباتها تجسيم وتشبيه وتركيب [41]