الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وإذا كان كذلك ، فالله سبحانه بعث الرسل بما يقتضي الكمال من [ ص: 157 ] إثبات أسمائه وصفاته على وجه التفصيل ، والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل ، فالرب تعالى [1] موصوف بصفات الكمال [ التي لا غاية فوقها ، منزه عن النقص بكل وجه ممتنع ، وأن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال ] [2] ، فأما صفات النقص فهو منزه عنها مطلقا وأما صفات الكمال فلا يماثله - بل ولا يقاربه - [3] فيها شيء من الأشياء .

                  والتنزيه يجمعه نوعان : نفي النقص ، ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال ، كما دل على ذلك سورة : ( قل هو الله أحد ) وغيرها [ من القرآن ] [4] ، مع دلالة العقل على ذلك ، وإرشاد القرآن إلى ما يدل على ذلك من العقل ، بل وقد أخبر الله أن في الآخرة من أنواع النعيم ما له شبه [5] في الدنيا ، كأنواع المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وغير ذلك ، وقد قال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء [6] ، فحقائق تلك [ ص: 158 ] أعظم من حقائق هذه بما [7] لا يعرف قدره ، وكلاهما مخلوق ، والنعيم [ الذي ] [8] لا يعرف جنسه قد أجمله الله [ سبحانه وتعالى ] [9] بقوله : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) [ سورة السجدة : 17 ] .

                  وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ أنه ] [10] قال : " يقول الله تعالى : أعددت [11] لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر "

                  [12] فإذا كان هذان المخلوقان متفقين في الاسم مع أن بينهما في الحقيقة [ ص: 159 ] تباينا لا يعرف في الدنيا قدره [13] ، فمن المعلوم أن ما يتصف به الرب من صفات الكمال مباين لصفات خلقه ، أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق ، ولهذا قال أعلم [14] الخلق بالله في [ الحديث ] الصحيح [15] : " لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " [16]

                  وقال في الدعاء [ المأثور ] [17] الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أصاب عبدا هم قط ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك [ ابن عبدك ] [18] وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته [19] أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب [ ص: 160 ] عندك أن تجعل القرآن [20] ربيع قلبي ، ونور صدري [21] ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ; إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكان حزنه فرحا [22] " . قالوا : يا رسول الله ! أفلا نتعلمهن ؟ قال : بلى ، ينبغي لكل من سمعهن أن يتعلمهن " [23] فبين [24] أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك ولا نبي .

                  وأسماؤه تتضمن صفاته ، ليست أسماء أعلام محضة ، كاسمه : العليم ، والقدير ، والرحيم ، والكريم ، والمجيد ، والسميع ، والبصير ، وسائر أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى .

                  وهو سبحانه مستحق للكمال المطلق ; لأنه واجب الوجود بنفسه ، يمتنع العدم عليه ، ويمتنع [25] أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه ، إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه كان محتاجا إلى الغير ، والحاجة إما إلى [26] حصول كمال له ، وإما إلى دفع ما ينقص كماله ، ومن احتاج [ ص: 161 ] في شيء من كماله إلى غيره لم يكن كماله موجودا بنفسه ، بل بذلك الغير ، وهو بدون ذلك الكمال ناقص ، والناقص لا يكون واجبا بنفسه ، بل ممكنا مفتقرا إلى غيره ; لأنه لو كان واجبا بنفسه مع كونه ناقصا مفتقرا إلى كمال من غيره ، لكان الذي يعطيه الكمال : إن كان ممكنا فهو مفتقر إلى واجب آخر ، والقول في هذا كالقول في الأول ، وإن كان واجبا ناقصا ، فالقول فيه كالقول في الأول ; وإن كان واجبا كاملا فهذا هو الواجب بنفسه ، وذاك الذي قدر واجبا ناقصا فهو مفتقر إلى هذا في كماله ، وذاك [27] غني عنه ، فهذا هو رب ذاك ، وذاك عبده ، ويمتنع مع كونه مربوبا معبدا أن يكون واجبا ، ففرض كونه واجبا ناقصا محال .

                  وأيضا ، فيمتنع أن يكون نفس ما هو واجب بنفسه فيه نقص يفتقر في زواله إلى غيره ; لأن ذلك النقص حينئذ يكون ممكن الوجود وإلا لما قبله ، وممكن العدم وإلا لكان لازما له لا يقبل الزوال ، والتقدير أنه ممكن [28] زواله بحصول الكمال الممكن الوجود ، فإن ما هو ممتنع لا يكون كمالا ، وما هو ممكن : فإما أن يكون للواجب أو من الواجب ، ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق ، فالخالق [29] الواجب بنفسه أحق بالكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه ، فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال ; فيكون ذلك الكمال - إذا وجد - مفتقرا إليه وإلى ذلك الغير الآخر ، يحصل بهما جميعا ، وكل منهما واجب بنفسه فلا يكون [ ص: 162 ] ذلك الأثر لا من هذا ولا من هذا ، بل هو شيء [30] منفصل عنهما .

                  وتحقيق ذلك أن كمال الشيء هو من نفس الشيء وداخل فيه ، فالواجب بنفسه لا يكون واجبا إن لم يكن ما هو داخل [31] في نفسه واجب الوجود لا يفتقر فيه إلى سبب منفصل عنه ، فمتى افتقر فيما هو داخل فيه إلى سبب منفصل عنه لم تكن نفسه واجبة بنفسه ، وما لا يكون داخلا في نفسه ، لا يكون من كماله أيضا ، بل يكون شيئا مباينا له ، وإنما يكون ذلك شيئين : أحدهما واجب بنفسه والآخر شيء قرن به وضم إليه .

                  وأيضا ، فنفس واجب الوجود هو أكمل الموجودات ، إذ الواجب أكمل من الممكن بالضرورة ، فكل كمال ممكن له : إن كان لازما له امتنع أن يكون كماله مستفادا من غيره ، أو أن [32] يحتاج فيه إلى غيره .

                  وإن لم يكن لازما له : فإن لم يكن قابلا له من قبول غيره من الممكنات له ، كان الممكن أكمل من الواجب ، وما لا يقبله [ لا ] [33] واجب ولا ممكن ليس كمالا ; وإن كان قابلا له ولم تكن ذاته مستلزمة [34] له ، كان غيره معطيا له إياه ، والمعطي للكمال هو أحق بالكمال ، فيكون ذلك المعطي أكمل منه ، وواجب الوجود لا يكون غيره أكمل منه .

                  وإذا قيل : ذلك الغير واجب أيضا .

                  [ ص: 163 ] فإن لم يكن كاملا بنفسه كان كل منهما معطيا للآخر الكمال ، وهذا ممتنع ; [ لأنه ] [35] يستلزم كون كل من الشيئين مؤثرا في الآخر أثرا لا يحصل إلا بعد تأثير الآخر ، فإن هذا لا يفيد ذلك الكمال للآخر حتى يكون كاملا ، ولا يكون كاملا حتى يفيده الآخر الكمال ، وهذا ممتنع ، كما يمتنع أن لا يوجد هذا حتى يوجده [36] ذاك ، ولا يوجد ذاك حتى يوجده هذا .

                  وإن كان ذلك الغير واجبا كاملا بنفسه مكملا لغيره [37] ، والآخر واجب ناقص يحتاج في كماله إلى ذلك الكامل المكمل ، كان جزء منه مفتقرا إلى ذاك ; وما افتقر جزء منه إلى غيره لم تكن جملته واجبة بنفسها .

                  وإيضاح ذلك : أن الواجب بنفسه : إما أن يكون شيئا واحدا لا جزء له ، أو يكون أجزاء . فإن كان شيئا واحدا لا جزء له ، امتنع أن يكون له بعض ، فضلا عن أن يقال : بعضه يفتقر إلى الغير وبعضه لا يفتقر إلى الغير ، وامتنع أن يكون شيئين : أحدهما نفسه ، والآخر كماله .

                  وإن قيل : هو جزءان أو أجزاء ، كان الواجب هو مجموع تلك الأجزاء ، فلا يكون واجبا بنفسه حتى يكون المجموع واجبا بنفسه ، ( * فمتى كان البعض مفتقرا إلى سبب منفصل عن المجموع لم يكن واجبا بنفسه * ) [38]

                  [ ص: 164 ] وهذا المقام برهان بين لمن تأمله . وبيانه أن الناس متنازعون في إثبات الصفات لله : فأهل السنة يثبتون الصفات لله ، وكثير من الفلاسفة والشيعة يوافقهم على ذلك ، وأما الجهمية وغيرهم - كالمعتزلة [39] ومن وافقهم من الشيعة والفلاسفة كابن سينا ونحوه - فإنهم ينفون الصفات عن الله تعالى ، ويقولون : [40] : إن إثباتها تجسيم وتشبيه وتركيب [41]

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية