الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الفلاسفة ومن وافقهم على نفي الصفات ، مؤلفة من ألفاظ مجملة .

                  فإذا قالوا : " لو كان موصوفا بالعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات [ ص: 167 ] لكان مركبا ، والمركب مفتقر إلى جزئه ، وجزؤه غيره [1] ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه " .

                  قيل لهم : قولكم : " لكان مركبا " .

                  إن أردتم به : لكان غيره قد ركبه ، أو لكان مجتمعا بعد افتراقه ، أو لكان قابلا للتفريق ، فاللازم [2] باطل ، فإن الكلام هو في [3] الصفات اللازمة للموصوف التي يمتنع وجوده بدونها ، فإن الرب [ سبحانه ] [4] يمتنع أن يكون موجودا وهو ليس بحي ولا عالم ولا قادر ، وحياته وعلمه وقدرته صفات لازمة لذاته .

                  وإن أردتم بالمركب الموصوف [5] أو ما يشبه ذلك .

                  قيل لكم 11 ) [6] : ولم 12 ) [7] قلتم : إن ذلك ممتنع ؟

                  قولهم : " والمركب مفتقر إلى غيره " .

                  قيل : أما المركب بالتفسير الأول فهو مفتقر إلى ما يباينه ، وهذا ممتنع على الله . وأما الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته الذي سميتموه أنتم مركبا ، فليس في اتصافه هنا بها ما يوجب كونه مفتقرا إلى مباين له .

                  فإن قلتم : هي غيره ، وهو لا يوجد إلا بها ، وهذا افتقار إليها .

                  [ ص: 168 ] قيل لكم [8] : إن أردتم بقولكم : " هي غيره " أنها مباينة له ، فذلك باطل [9] . وإن أردتم أنها ليست إياه ، قيل لكم [10] : وإذا لم تكن الصفة هي الموصوف فأي محذور في هذا ؟

                  فإذا قلتم : هو مفتقر إليها .

                  قيل : أتريدون بالافتقار أنه مفتقر إلى فاعل يفعله ، أو محل يقبله ؟ أم تريدون أنه مستلزم لها فلا يكون موجودا إلا وهو متصف بها ؟ ( 4 فإن أردتم الأول ، كان هذا باطلا ، وإن أردتم الثاني ، قيل : وأي محذور في هذا ؟

                  وإن قلتم : هي مفتقرة إليه 4 ) [11] .

                  قيل : أتريدون أنها مفتقرة إلى فاعل يبدعها ، أو [12] إلى محل تكون موصوفة به ؟

                  أما الثاني فأي محذور فيه ؟ وأما الأول فهو باطل [13] ، إذ الصفة اللازمة للموصوف لا يكون فاعلا لها .

                  وإن قلتم : هو موجب لها ، أو علة لها ، أو مقتض لها ، فالصفة إن كانت واجبة ، فالواجب لا يكون معلولا ، ويلزم تعدد الواجب وهو الصفة والموصوف ; وإن كانت ممكنة بنفسها ، فالممكن بنفسه لا يوجد [ ص: 169 ] إلا بموجب ، فتكون الذات هي الموجبة ، والشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا .

                  قيل لكم : لفظ الواجب بنفسه والممكن بنفسه قد صار فيه اشتراك في خطابكم ، فقد يراد بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة ، ويراد بالواجب بنفسه [14] ما لا مبدع له ولا محل ، ويراد بالواجب بنفسه ما لا يكون له [15] صفة لازمة ولا [ يكون ] موصوفا ملزوما [16] .

                  فإن أردتم بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة ، فالصفة واجبة بنفسها ، وإن أردتم ما لا محل له يقوم به فالصفة ليست واجبة بنفسها بل الموصوف هو الواجب بنفسه ، وإن أردتم بالواجب ما ليس بملزوم لصفة ولا لازم فهذا لا حقيقة له ، بل هذا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان ، وأنتم قدرتم شيئا في أذهانكم ووصفتموه بصفات يمتنع معها [17] وجوده ، فجعلتم ما هو واجب الوجود بنفسه ممتنع الوجود ، وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع .

                  والغرض هنا [18] التنبيه على هذا ، إذ المقصود في هذا المقام يحصل على التقديرين ، فنقول : واجب الوجود بنفسه سواء قيل بثبوت الصفات له وسمي ذلك تركيبا أو لم يسم ، أو قيل بنفي الصفات عنه ، يمتنع أن [ ص: 170 ] يكون مفتقرا إلى شيء مباين له . وذلك أنه إذا [19] قدر أنه ليس فيه معان متعددة بوجه من الوجوه - كما يظنه من يظنه من نفاة الصفات - فهذا يمتنع أن يكون له كمال مغاير له ، وأن يكون شيئين ، وحينئذ فلو كان فيه ما هو مفتقر إلى غيره للزم تعدد المعاني فيه ، وهذا ممتنع على التقديرين [20] .

                  وإن قيل : إن فيه معان متعددة ; فواجب الوجود هو مجموع تلك الأمور المتلازمة ، إذ يمتنع وجود شيء منها دون شيء ، وحينئذ فلو افتقر شيء من ذلك المجموع إلى أمر منفصل لم يكن واجب الوجود ، فهو سبحانه مستلزم لحياته وعلمه وقدرته وسائر صفات كماله ، وهذا هو الموجود الواجب بنفسه ، وهذه الصفات لازمة لذاته ، وذاته مستلزمة لها ، وهي داخلة في مسمى اسم نفسه ; وفي سائر أسمائه تعالى ، فإذا كان واجبا بنفسه وهي داخلة في مسمى اسم نفسه [21] لم يكن موجودا إلا بها ، فلا يكون مفتقرا فيها إلى شيء مباين له أصلا .

                  ولو قيل : إنه يفتقر في كونه حيا أو عالما أو قادرا إلى غيره ، فذلك الغير : إن كان ممكنا كان مفتقرا إليه ، وكان هو سبحانه ربه ، فيمتنع أن يكون ذلك مؤثرا فيه ; لأنه يلزم أن يكون هذا مؤثرا في هذا ، وهذا مؤثرا في هذا ، وتأثير كل منهما في الآخر لا يكون إلا بعد حصول أثره فيه ; لأن التأثير لا يحصل إلا مع كونه حيا عالما قادرا ، فلا يكون هذا حيا عالما قادرا [ ص: 171 ] حتى يجعله الآخر كذلك ، ( 1 ولا يكون هذا حيا عالما قادرا حتى يجعله الآخر كذلك 1 ) [22] فلا يكون أحدهما حيا عالما قادرا إلا بعد أن يجعل الذي جعله حيا عالما قادرا [ حيا عالما قادرا ] [23] ، ولا يكون حيا عالما قادرا [ إلا بعد كونه حيا علما قادرا ] [24] بدرجتين .

                  وهذا كله مما يعلم امتناعه بصريح العقل ، وهو من المعارف الضرورية التي لا ينازع فيها العقلاء ، وهذا من الدور القبلي : دور العلل ودور الفاعلين ودور المؤثرين ، وهو ممتنع باتفاق العقلاء ، بخلاف دور المتلازمين ، وهو أنه لا يكون هذا إلا مع هذا ( 4 ولا يكون هذا إلا مع هذا 4 ) [25] ، فهذا جائز سواء كانا لا فاعل لهما كصفات [ الله ] [26] أو كانا مفعولين والمؤثر التام فيهما غيرهما .

                  وهذا جائز [27] ، فإن الله يخلق الشيئين معا للذين لا يكون أحدهما إلا مع الآخر : كالأبوة والبنوة ، فإن الله إذا خلق الولد فنفس خلقه للولد جعل هذا أبا وهذا ابنا ، وإحدى الصفتين لم تسبق الأخرى ولا تفارقها ، بخلاف ما إذا كان أحد الأمرين هو من تمام المؤثر في الآخر فإن هذا ممتنع ، فإن الأثر لا يحصل إلا بالمؤثر التام ، فلو كان تمام هذا المؤثر من [ ص: 172 ] تمام ذاك [28] ، وتمام ذاك المؤثر من تمام هذا [29] ، كان كل من التمامين [30] متوقفا على تمام مؤثره ، وتمام مؤثره موقوفا عليه نفسه ، فإن الأثر لا يوجد إلا بعد تمام مؤثره ، فلا [31] يكون كل من الأثرين من تمام نفسه التي تم تأثيرها به ، فأن لا يكون من تمام المؤثر في تمامه بطريق الأولى ، فإن الشيء إذا امتنع أن يكون علة أو فاعلا أو مؤثرا ( * في نفسه ، أو في تمام كونه علة ومؤثرا * ) [32] وفاعلا له ، أو لشيء من تمامات تأثيره ; فلأن يمتنع كونه فاعلا لفاعل نفسه ، أو مؤثرا في المؤثر في نفسه وفي تمامات تأثير ذلك ، أولى وأحرى .

                  فتبين أنه يمتنع كون شيئين كل منهما معطيا للآخر ) [33] شيئا من صفات الكمال أو شيئا مما به يصير معاونا له على الفعل [34] ، سواء أعطاه كمال علم أو قدرة أو حياة أو غير ذلك ، فإن هذا كله يستلزم الدور في تمام الفاعلين وتمام المؤثرين ، وهذا ممتنع .

                  وبهذا يعلم أنه يمتنع أن يكون للعالم صانعان متعاونان لا يفعل أحدهما إلا بمعاونة الآخر ، ويمتنع أيضا أن يكونا مستقلين ; لأن [ ص: 173 ] استقلال أحدهما يناقض استقلال الآخر ، وسيأتي بسط هذا [35] .

                  والمقصود هنا أنه يمتنع أن يكون أحدهما يعطي الآخر كماله ، ويمتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في كماله إلى غيره ، فيمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه ، فإن الافتقار : إما في تحصيل الكمال ، وإما في منع سلبه الكمال ، فإنه إذا كان كاملا بنفسه ولا يقدر غيره [36] أن يسلبه كماله ، لم يكن محتاجا بوجه من الوجوه ، فإن ما ليس كمالا له فوجوده ليس مما يمكن أن يقال : إنه يحتاج [ إليه ] [37] ؛ إذ حاجة الشيء إلى ما ليس من كماله ممتنعة ، وقد تبين أنه لا يحتاج إلى غيره في حصول كماله ، وكذلك [38] لا يحتاج في منع سلب الكمال كإدخال نقص عليه ، وذلك لأن ذاته [39] إن كانت مستلزمة لذلك الكمال امتنع وجود الملزوم بدون اللازم ، فيمتنع أن يسلب ذلك الكمال مع كونه واجب الوجود بنفسه ، وكون لوازمه يمتنع عدمها .

                  فإن قيل : إن ذاته لا تستلزم كماله [40] ، كان مفتقرا في حصول ذلك الكمال إلى غيره ، وقد تبين أن ذلك ممتنع .

                  فتبين أنه يمتنع احتياجه إلى غيره في تحصيل شيء أو دفع شيء ، وهذا هو المقصود ، فإن الحاجة لا تكون إلا لحصول شيء أو دفع [ ص: 174 ] شيء : إما حاصل يراد إزالته ، أو ما لم يحصل بعد فيطلب منعه . ومن كان لا يحتاج [41] إلى غيره في جلب شيء ولا في دفع شيء امتنعت حاجته مطلقا ، فتبين أنه غني عن غيره مطلقا .

                  وأيضا ، فلو قدر أنه محتاج إلى الغير ، لم يخل : إما أن يقال : إنه يحتاج إليه في شيء [42] من لوازم وجوده ، أو شيء من العوارض له .

                  أما الأول فيمتنع ، فإنه لو افتقر إلى غيره في شيء من لوازمه لم يكن موجودا إلا بذلك الغير ; لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ، فإذا كان لا يوجد إلا بلازمه ، ولازمه لا يوجد إلا بذلك الغير ، لم يكن هو موجودا [ إلا بذلك الغير ، فلا يكون موجودا بنفسه ، بل يكون : إن وجد ذلك الغير وجد ، وإن لم يوجد لم يوجد ، ثم ذلك الغير : إن لم يكن موجودا ] [43] بنفسه واجبا بنفسه افتقر إلى فاعل مبدع ، فإن كان هو الأول لزم الدور في العلل : وإن كان غيره لزم التسلسل في العلل ، وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء كما قد بسط في موضع آخر .

                  وإن كان ذلك الغير واجبا بنفسه موجودا بنفسه [44] والأول كذلك [45] ، كان كل منهما لا يوجد إلا بوجود الآخر ، وكون كل من الشيئين لا يوجد إلا مع الآخر جائز إذا كان لهما سبب غيرهما ، كالمتضايفين مثل الأبوة والبنوة ، [ ص: 175 ] فلو كان لهما سبب غيرهما ، كانا ممكنين يفتقران [46] إلى واجب بنفسه ، والقول فيه كالقول فيهما .

                  وإذا كانا واجبين بأنفسهما ، امتنع أن يكون وجود كل منهما أو وجود شيء من لوازمه بالآخر ; لأن كلا منهما يكون علة أو جزء علة في الآخر ، فإن كلا منهما لا يتم إلا بالآخر ، وكل منهما لا يمكن أن يكون علة ولا جزء علة إلا إذا كان موجودا ، وإلا فما لم يوجد لا يكون مؤثرا في غيره ولا فاعلا لغيره ، فلا [47] يكون هذا مؤثرا في ذاك حتى يوجد هذا ، ( * ولا يكون ذاك مؤثرا في هذا حتى يوجد ذاك [48] * ) [49] ، فيلزم أن لا يوجد هذا حتى يوجد ذاك [50] ولا يوجد ذاك حتى يوجد هذا ، ولا يوجد هذا حتى يوجد مفعول هذا ، فيكون هذا فاعل فاعل هذا ، وكذلك لا يوجد ذاك حتى يوجد فاعل [ ذاك ] [51] ، فيكون ذاك فاعل فاعل ذاك .

                  ومن المعلوم أن كون الشيء علة لنفسه ، أو جزء علة لنفسه ، أو شرط علة نفسه ، ممتنع بأي عبارة عبر عن هذا المعنى ، فلا يكون فاعل نفسه ، ولا جزءا من الفاعل ، ولا شرطا في الفاعل لنفسه ، ولا تمام الفاعل لنفسه ، ولا يكون مؤثرا في نفسه ، ولا تمام المؤثر في نفسه ، فالمخلوق [ ص: 176 ] لا يكون رب نفسه ، ولا يحتاج الرب نفسه بوجه من الوجوه إليه في خلقه [52] ؛ إذ لو احتاج إليه في خلقه لم يخلقه حتى يكون ، ولا يكون حتى يخلقه ، فيلزم الدور القبلي لا المعي [53] .

                  وإذا لم يكن مؤثرا في نفسه فلا يكون مؤثرا في المؤثر في نفسه ( * بطريق الأولى ، فإذا قدر واجبان كل واحد منهما له تأثير ما في الآخر ، لزم أن يكون كل منهما مؤثرا في المؤثر في نفسه * ) [54] وهذا ممتنع [ كما تبين ] [55] ، فيمتنع تقدير واجبين كل منهما مؤثر في الآخر بوجه من الوجوه ، فامتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في شيء من لوازمه إلى غيره ، سواء قدر أنه واجب أو ممكن .

                  وهذا مما يعلم به امتناع أن يكون للعالم صانعان ، فإن الصانعين إن كانا مستقلين كل منهما فعل الجميع ، كان هذا متناقضا [ ممتنعا ] [56] لذاته ، فإن فعل أحدهما للبعض يمنع استقلال الآخر به ، فكيف باستقلاله به ؟ !

                  ولهذا اتفق العقلاء [57] على امتناع اجتماع مؤثرين تامين في أثر واحد ; لأن ذلك جمع بين النقيضين ؛ إذ كونه [58] وجد بهذا وحده يناقض كونه [ ص: 177 ] وجد بالآخر وحده ، وإن كانا متشاركين متعاونين ، فإن كان فعل كل واحد [59] منهما مستغنيا عن فعل الآخر وجب أن يذهب كل إله بما خلق ، فتميز مفعول هذا [ عن مفعول هذا ] [60] ، ولا يحتاج إلى الارتباط به ، وليس الأمر كذلك ، بل العالم كله متعلق بعضه ببعض ، هذا مخلوق من هذا وهذا [ مخلوق ] من هذا [61] ، وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا ، وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا ، لا يتم شيء من أمور العالم إلا بشيء [ آخر منه ] [62] .

                  وهذا يدل على أن العالم كله فقير إلى غيره لما فيه من الحاجة ، ويدل على أنه ليس فيه فعل لاثنين ، بل كله مفتقر إلى واحد .

                  فالفلك الأطلس الذي هو أعلى الأفلاك في جوفه سائر الأفلاك ، والعناصر والمولدات والأفلاك متحركات بحركات مختلفة [ مخالفة ] [63] لحركة التاسع ، فلا يجوز أن تكون حركته هي سبب تلك الحركات المخالفة لحركته إلى [64] جهة أخرى أكثر مما [65] يقال : إن الحركة الشرقية هو سببها ، وأما الحركات الغربية فهي مضادة لجهة حركته ، فلا يكون هو سببها ، [ وهذا ] [66] مما يسلمه هؤلاء [67] [ ص: 178 ] وأيضا فالأفلاك في جوفه بغير اختياره ، ومن جعل غيره فيه بغير اختياره كان مقهورا مدبرا ، كالإنسان الذي جعل في باطنه أحشاؤه ، فلا يكون واجبا بنفسه ، فأقل درجات الواجب بنفسه أن لا يكون مقهورا مدبرا ، [ فإنه إذا كان مقهورا مدبرا ] [68] كان مربوبا أثر فيه غيره ، ومن أثر فيه غيره كان وجوده [69] متوقفا على وجود ذلك الغير ، سواء كان الأثر كمالا أو نقصا ، فإنه إذا [70] كان زيادة كان كماله موقوفا على الغير ، وكماله منه فلا يكون موجودا بنفسه ، وإن كان نقصا [ كان غيره قد ][71] نقصه ، ومن نقصه غيره لم يكن ما نقصه هو واجب الوجود بنفسه [72] ، فإن [ ما ] كان [73] واجب الوجود بنفسه يمتنع عدمه ، فذاك الجزء المنقوص ليس واجب الوجود [74] ولا من لوازم واجب الوجود ، وما لم يكن كذلك لم يكن عدمه نقصا ؛ إذ النقص عدم كمال ، والكمال الممكن هو من لوازم واجب الوجود كما تقدم ، والتقدير أنه نقص ، فتبين أن من نقصه غيره شيئا من لوازم وجوده ، [ ص: 179 ] أو أعطاه [75] شيئا من لوازم وجوده ، لم يكن واجب الوجود بنفسه .

                  فالفلك الذي قد حشي بأجسام كثيرة بغير اختياره محتاج إلى ذلك الذي حشاه بتلك الأجسام ، فإنه إذا كان حشوه كمالا له ، لم يوجد كماله إلا بذلك الغير ، فلا يكون واجبا بنفسه ، وإن كان نقصا فيه كان غيره قد سلبه الكمال الزائل [76] بذلك النقص ، فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال ، إذا لو استلزمته لعدمت بعدمه ، وكماله من تمام نفسه ، فإذا كان جزء نفسه غير واجب ، لم تكن نفسه واجبة كما تقدم بيانه .

                  وأيضا ، فالفلك الأطلس إن قيل : إنه لا تأثير له [77] في شيء من العالم ، وجب أن لا يكون هو المحرك للأفلاك التي فيه ، وهي متحركة بحركته ، ولها حركة تخالف حركته ، فيكون في الفلك الواحد قوة تقتضي حركتين متضادتين ، وهذا ممتنع فإن الضدين لا يجتمعان ، ولأن المقتضي للشيء لو كان مقتضيا لضده الذي لا يجامعه ، لكان فاعلا له غير فاعل [ له ] [78] ، 8 فإن كان مريدا له [ كان مريدا ] [79] غير مريد ، وهو جمع بين [ النقيضين ] [80] ، وإن كان له تأثير في تحريك الأفلاك ، أو غير ذلك فمعلوم أنه غير مستقل بالتأثير ; لأن تلك الأفلاك لها حركات تخصها من غير تحريكه ; ولأن ما يوجد في الأرض من الآثار لا بد فيه من الأجسام [ ص: 180 ] العنصرية ، وتلك الأجسام إن لم يكن فاعلا لها فهو محتاج إلى ما لم [81] يفعله ، وإن قدر أنه المؤثر فيها فليس مؤثرا مستقلا فيها ; لأن الآثار الحاصلة فيها لا تكون [82] إلا باجتماع اتصالات وحركات تحصل بغيره .

                  فتبين أن تأثيره مشروط بتأثير غيره ، وحينئذ فتأثيره من كماله ، فإن المؤثر أكمل من غير المؤثر ، وهو مفتقر في هذا الكمال إلى غيره ، فلا يكون واجبا بنفسه ، فتبين أنه ليس واجبا بنفسه من هذين الوجهين ، وتبين [ أيضا ] أن فاعله [83] ليس مستغنيا عن فاعل تلك الأمور التي يحتاج إليها الفلك ، لكون الفلك ليس متميزا مستغنيا من كل وجه عن كل ما سواه ، بل هو محتاج إلى ما سواه من المصنوعات ، فلا يكون واجبا بنفسه ، ولا مفعولا لفاعل مستغن عن فاعل ما سواه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية