الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وإذا كان الأمر في الفلك الأطلس هكذا ، فالأمر في غيره أظهر ، فأي شيء اعتبرته من العالم [1] وجدته مفتقرا إلى شيء آخر من العالم ، فيدلك ذلك مع كونه [ ممكنا مفتقرا ليس بواجب بنفسه ] [2] على [3] أنه مفتقر إلى فاعل ذلك الآخر [4] ، فلا يكون في العالم فاعلان فعل كل منهما ومفعوله مستغن عن فعل الآخر ومفعوله ، وهذا كالإنسان مثلا فإنه يمتنع أن يكون [ ص: 181 ] الذي خلقه غير الذي خلق ما [5] يحتاج إليه ، فالذي خلق مادته كمني الأبوين ودم الأم هو الذي خلقه ، والذي خلق الهواء الذي يستنشقه والماء الذي يشربه هو الذي خلقه ; لأن خالق ذلك [ لو ] [6] كان خالقا غير خالقه ، فإن كانا خالقين كل منهما مستغن عن الآخر في فعله ومفعوله ، كان ذلك ممتنعا ; لأن الإنسان محتاج إلى المادة والرزق ، فلو كان خالق مادته ورزقه غير خالقه ، لم يكن مفعول أحدهما مستغنيا عن مفعول الآخر .

                  فتبين [ بذلك ] [7] أنه يمتنع أن يكون للعالم فاعلان ، مفعول كل منهما مستغن عن مفعول الآخر ، كما قال تعالى : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ) [ سورة المؤمنون : 91 ] .

                  ويمتنع [8] أن يكونا مستقلين ; لأنه جمع بين النقيضين ، ويمتنع أن يكونا متعاونين متشاركين ، كما يوجد ذلك في المخلوقين يتعاونون على المفعولات ; لأنه حينئذ لا يكون أحدهما فاعلا إلا بإعانة الآخر له ، وإعانته فعل منه لا يحصل إلا بقدرته ، بل [ وبعلمه ] [9] وإرادته ، فلا يكون هذا معينا لذاك حتى يكون ذاك معينا لهذا ، ولا يكون ذاك [10] معينا لهذا حتى يكون هذا معينا لذاك ; وحينئذ لا يكون هذا معينا لذاك ولا ذاك [ ص: 182 ] معينا لهذا ، كما لا يكون الشيء معينا لنفسه بطريق الأولى ، فالقدرة التي بها يفعل الفاعل لا تكون حاصلة بالقدرة التي يفعل بها الفاعل الآخر ، بل إما أن تكون [11] من لوازم ذاته ، وهي قدرة الله تعالى ، أو تكون حاصلة بقدرة غيره كقدرة العبد ، فإذا قدر ربان متعاونان [12] لا يفعل أحدهما حتى يعينه الآخر ، لم يكن أحدهما قادرا على الفعل بقدرة لازمة لذاته ، ولا يمكن أن تكون قدرته حاصلة من الآخر ; لأن الآخر لا يجعله قادرا حتى يكون هو قادرا ، فإذا لم تكن قدرة واحد منهما من نفسه ، لم يكن لأحدهما قدرة بحال .

                  فتبين امتناع كون العالم له ربان ، وتبين امتناع كون واجب الوجود له كمال يستفيده من غيره ، وتبين امتناع أن يؤثر في واجب الوجود غيره ، وهو سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه ، وذلك الكمال لازم له ; لأن الكمال الذي يكون كمالا [ للموجود ] [13] ، إما أن يكون واجبا له ، أو ممتنعا عليه ، أو جائزا عليه ، فإن كان واجبا له فهو المطلوب ، وإن كان ممتنعا لزم أن يكون الكمال الذي للموجود ممكنا للممكن ممتنعا على الواجب ، فيكون الممكن أكمل من الواجب .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية