فهذه ، مؤلفة من ألفاظ مجملة . الحجة التي احتج بها هؤلاء الفلاسفة ومن وافقهم على نفي الصفات
فإذا [1] ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه " . قالوا : " لو كان موصوفا بالعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات [ ص: 167 ] لكان مركبا ، والمركب مفتقر إلى جزئه ، وجزؤه غيره
قيل لهم : قولكم : " لكان مركبا " .
إن أردتم به : لكان غيره قد ركبه ، أو لكان مجتمعا بعد افتراقه ، أو لكان قابلا للتفريق ، فاللازم [2] باطل ، فإن الكلام هو في [3] الصفات اللازمة للموصوف التي يمتنع وجوده بدونها ، فإن الرب [ سبحانه ] [4] يمتنع أن يكون موجودا وهو ليس بحي ولا عالم ولا قادر ، وحياته وعلمه وقدرته صفات لازمة لذاته .
وإن أردتم بالمركب الموصوف [5] أو ما يشبه ذلك .
قيل لكم 11 ) [6] : ولم 12 ) [7] قلتم : إن ذلك ممتنع ؟
قولهم : " والمركب مفتقر إلى غيره " .
قيل : أما المركب بالتفسير الأول فهو مفتقر إلى ما يباينه ، وهذا ممتنع على الله . وأما الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته الذي سميتموه أنتم مركبا ، فليس في اتصافه هنا بها ما يوجب كونه مفتقرا إلى مباين له .
فإن قلتم : هي غيره ، وهو لا يوجد إلا بها ، وهذا افتقار إليها .
[ ص: 168 ] قيل لكم [8] : إن أردتم بقولكم : " هي غيره " أنها مباينة له ، فذلك باطل [9] . وإن أردتم أنها ليست إياه ، قيل لكم [10] : وإذا لم تكن الصفة هي الموصوف فأي محذور في هذا ؟
فإذا قلتم : هو مفتقر إليها .
قيل : أتريدون بالافتقار أنه مفتقر إلى فاعل يفعله ، أو محل يقبله ؟ أم تريدون أنه مستلزم لها فلا يكون موجودا إلا وهو متصف بها ؟ ( 4 فإن أردتم الأول ، كان هذا باطلا ، وإن أردتم الثاني ، قيل : وأي محذور في هذا ؟
وإن قلتم : هي مفتقرة إليه 4 ) [11] .
قيل : أتريدون أنها مفتقرة إلى فاعل يبدعها ، أو [12] إلى محل تكون موصوفة به ؟
أما الثاني فأي محذور فيه ؟ وأما الأول فهو باطل [13] ، إذ الصفة اللازمة للموصوف لا يكون فاعلا لها .
وإن قلتم : هو موجب لها ، أو علة لها ، أو مقتض لها ، فالصفة إن كانت واجبة ، فالواجب لا يكون معلولا ، ويلزم تعدد الواجب وهو الصفة والموصوف ; وإن كانت ممكنة بنفسها ، فالممكن بنفسه لا يوجد [ ص: 169 ] إلا بموجب ، فتكون الذات هي الموجبة ، والشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا .
قيل لكم : لفظ الواجب بنفسه والممكن بنفسه قد صار فيه اشتراك في خطابكم ، فقد يراد بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة ، ويراد بالواجب بنفسه [14] ما لا مبدع له ولا محل ، ويراد بالواجب بنفسه ما لا يكون له [15] صفة لازمة ولا [ يكون ] موصوفا ملزوما [16] .
فإن أردتم بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة ، فالصفة واجبة بنفسها ، وإن أردتم ما لا محل له يقوم به فالصفة ليست واجبة بنفسها بل الموصوف هو الواجب بنفسه ، وإن أردتم بالواجب ما ليس بملزوم لصفة ولا لازم فهذا لا حقيقة له ، بل هذا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان ، وأنتم قدرتم شيئا في أذهانكم ووصفتموه بصفات يمتنع معها [17] وجوده ، فجعلتم ما هو واجب الوجود بنفسه ممتنع الوجود ، وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع .
والغرض هنا [18] التنبيه على هذا ، إذ المقصود في هذا المقام يحصل على التقديرين ، فنقول : واجب الوجود بنفسه سواء قيل بثبوت الصفات له وسمي ذلك تركيبا أو لم يسم ، أو قيل بنفي الصفات عنه ، يمتنع أن [ ص: 170 ] يكون مفتقرا إلى شيء مباين له . وذلك أنه إذا [19] قدر أنه ليس فيه معان متعددة بوجه من الوجوه - كما يظنه من يظنه من نفاة الصفات - فهذا يمتنع أن يكون له كمال مغاير له ، وأن يكون شيئين ، وحينئذ فلو كان فيه ما هو مفتقر إلى غيره للزم تعدد المعاني فيه ، وهذا ممتنع على التقديرين [20] .
وإن قيل : إن فيه معان متعددة ; فواجب الوجود هو مجموع تلك الأمور المتلازمة ، إذ يمتنع وجود شيء منها دون شيء ، وحينئذ فلو افتقر شيء من ذلك المجموع إلى أمر منفصل لم يكن واجب الوجود ، فهو سبحانه مستلزم لحياته وعلمه وقدرته وسائر صفات كماله ، وهذا هو الموجود الواجب بنفسه ، وهذه الصفات لازمة لذاته ، وذاته مستلزمة لها ، وهي داخلة في مسمى اسم نفسه ; وفي سائر أسمائه تعالى ، فإذا كان واجبا بنفسه وهي داخلة في مسمى اسم نفسه [21] لم يكن موجودا إلا بها ، فلا يكون مفتقرا فيها إلى شيء مباين له أصلا .
ولو قيل : إنه يفتقر في كونه حيا أو عالما أو قادرا إلى غيره ، فذلك الغير : إن كان ممكنا كان مفتقرا إليه ، وكان هو سبحانه ربه ، فيمتنع أن يكون ذلك مؤثرا فيه ; لأنه يلزم أن يكون هذا مؤثرا في هذا ، وهذا مؤثرا في هذا ، وتأثير كل منهما في الآخر لا يكون إلا بعد حصول أثره فيه ; لأن التأثير لا يحصل إلا مع كونه حيا عالما قادرا ، فلا يكون هذا حيا عالما قادرا [ ص: 171 ] حتى يجعله الآخر كذلك ، ( 1 ولا يكون هذا حيا عالما قادرا حتى يجعله الآخر كذلك 1 ) [22] فلا يكون أحدهما حيا عالما قادرا إلا بعد أن يجعل الذي جعله حيا عالما قادرا [ حيا عالما قادرا ] [23] ، ولا يكون حيا عالما قادرا [ إلا بعد كونه حيا علما قادرا ] [24] بدرجتين .
وهذا كله مما يعلم امتناعه بصريح العقل ، وهو من المعارف الضرورية التي لا ينازع فيها العقلاء ، وهذا من الدور القبلي : دور العلل ودور الفاعلين ودور المؤثرين ، وهو ممتنع باتفاق العقلاء ، بخلاف دور المتلازمين ، وهو أنه لا يكون هذا إلا مع هذا ( 4 ولا يكون هذا إلا مع هذا 4 ) [25] ، فهذا جائز سواء كانا لا فاعل لهما كصفات [ الله ] [26] أو كانا مفعولين والمؤثر التام فيهما غيرهما .
وهذا جائز [27] ، فإن الله يخلق الشيئين معا للذين لا يكون أحدهما إلا مع الآخر : كالأبوة والبنوة ، فإن الله إذا خلق الولد فنفس خلقه للولد جعل هذا أبا وهذا ابنا ، وإحدى الصفتين لم تسبق الأخرى ولا تفارقها ، بخلاف ما إذا كان أحد الأمرين هو من تمام المؤثر في الآخر فإن هذا ممتنع ، فإن الأثر لا يحصل إلا بالمؤثر التام ، فلو كان تمام هذا المؤثر من [ ص: 172 ] تمام ذاك [28] ، وتمام ذاك المؤثر من تمام هذا [29] ، كان كل من التمامين [30] متوقفا على تمام مؤثره ، وتمام مؤثره موقوفا عليه نفسه ، فإن الأثر لا يوجد إلا بعد تمام مؤثره ، فلا [31] يكون كل من الأثرين من تمام نفسه التي تم تأثيرها به ، فأن لا يكون من تمام المؤثر في تمامه بطريق الأولى ، فإن الشيء إذا امتنع أن يكون علة أو فاعلا أو مؤثرا ( * في نفسه ، أو في تمام كونه علة ومؤثرا * ) [32] وفاعلا له ، أو لشيء من تمامات تأثيره ; فلأن يمتنع كونه فاعلا لفاعل نفسه ، أو مؤثرا في المؤثر في نفسه وفي تمامات تأثير ذلك ، أولى وأحرى .
فتبين أنه يمتنع كون شيئين كل منهما معطيا للآخر ) [33] شيئا من صفات الكمال أو شيئا مما به يصير معاونا له على الفعل [34] ، سواء أعطاه كمال علم أو قدرة أو حياة أو غير ذلك ، فإن هذا كله يستلزم الدور في تمام الفاعلين وتمام المؤثرين ، وهذا ممتنع .
وبهذا يعلم أنه يمتنع أن يكون للعالم صانعان متعاونان لا يفعل أحدهما إلا بمعاونة الآخر ، ويمتنع أيضا أن يكونا مستقلين ; لأن [ ص: 173 ] استقلال أحدهما يناقض استقلال الآخر ، وسيأتي بسط هذا [35] .
والمقصود هنا أنه يمتنع أن يكون أحدهما يعطي الآخر كماله ، ويمتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في كماله إلى غيره ، فيمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه ، فإن الافتقار : إما في تحصيل الكمال ، وإما في منع سلبه الكمال ، فإنه إذا كان كاملا بنفسه ولا يقدر غيره [36] أن يسلبه كماله ، لم يكن محتاجا بوجه من الوجوه ، فإن ما ليس كمالا له فوجوده ليس مما يمكن أن يقال : إنه يحتاج [ إليه ] [37] ؛ إذ حاجة الشيء إلى ما ليس من كماله ممتنعة ، وقد تبين أنه لا يحتاج إلى غيره في حصول كماله ، وكذلك [38] لا يحتاج في منع سلب الكمال كإدخال نقص عليه ، وذلك لأن ذاته [39] إن كانت مستلزمة لذلك الكمال امتنع وجود الملزوم بدون اللازم ، فيمتنع أن يسلب ذلك الكمال مع كونه واجب الوجود بنفسه ، وكون لوازمه يمتنع عدمها .
فإن قيل : إن ذاته لا تستلزم كماله [40] ، كان مفتقرا في حصول ذلك الكمال إلى غيره ، وقد تبين أن ذلك ممتنع .
فتبين أنه يمتنع احتياجه إلى غيره في تحصيل شيء أو دفع شيء ، وهذا هو المقصود ، فإن الحاجة لا تكون إلا لحصول شيء أو دفع [ ص: 174 ] شيء : إما حاصل يراد إزالته ، أو ما لم يحصل بعد فيطلب منعه . ومن كان لا يحتاج [41] إلى غيره في جلب شيء ولا في دفع شيء امتنعت حاجته مطلقا ، فتبين أنه غني عن غيره مطلقا .
وأيضا ، فلو قدر أنه محتاج إلى الغير ، لم يخل : إما أن يقال : إنه يحتاج إليه في شيء [42] من لوازم وجوده ، أو شيء من العوارض له .
أما الأول فيمتنع ، فإنه لو افتقر إلى غيره في شيء من لوازمه لم يكن موجودا إلا بذلك الغير ; لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ، فإذا كان لا يوجد إلا بلازمه ، ولازمه لا يوجد إلا بذلك الغير ، لم يكن هو موجودا [ إلا بذلك الغير ، فلا يكون موجودا بنفسه ، بل يكون : إن وجد ذلك الغير وجد ، وإن لم يوجد لم يوجد ، ثم ذلك الغير : إن لم يكن موجودا ] [43] بنفسه واجبا بنفسه افتقر إلى فاعل مبدع ، فإن كان هو الأول لزم الدور في العلل : وإن كان غيره لزم التسلسل في العلل ، وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء كما قد بسط في موضع آخر .
وإن كان ذلك الغير واجبا بنفسه موجودا بنفسه [44] والأول كذلك [45] ، كان كل منهما لا يوجد إلا بوجود الآخر ، وكون كل من الشيئين لا يوجد إلا مع الآخر جائز إذا كان لهما سبب غيرهما ، كالمتضايفين مثل الأبوة والبنوة ، [ ص: 175 ] فلو كان لهما سبب غيرهما ، كانا ممكنين يفتقران [46] إلى واجب بنفسه ، والقول فيه كالقول فيهما .
وإذا كانا واجبين بأنفسهما ، امتنع أن يكون وجود كل منهما أو وجود شيء من لوازمه بالآخر ; لأن كلا منهما يكون علة أو جزء علة في الآخر ، فإن كلا منهما لا يتم إلا بالآخر ، وكل منهما لا يمكن أن يكون علة ولا جزء علة إلا إذا كان موجودا ، وإلا فما لم يوجد لا يكون مؤثرا في غيره ولا فاعلا لغيره ، فلا [47] يكون هذا مؤثرا في ذاك حتى يوجد هذا ، ( * ولا يكون ذاك مؤثرا في هذا حتى يوجد ذاك [48] * ) [49] ، فيلزم أن لا يوجد هذا حتى يوجد ذاك [50] ولا يوجد ذاك حتى يوجد هذا ، ولا يوجد هذا حتى يوجد مفعول هذا ، فيكون هذا فاعل فاعل هذا ، وكذلك لا يوجد ذاك حتى يوجد فاعل [ ذاك ] [51] ، فيكون ذاك فاعل فاعل ذاك .
ومن المعلوم أن كون الشيء علة لنفسه ، أو جزء علة لنفسه ، أو شرط علة نفسه ، ممتنع بأي عبارة عبر عن هذا المعنى ، فلا يكون فاعل نفسه ، ولا جزءا من الفاعل ، ولا شرطا في الفاعل لنفسه ، ولا تمام الفاعل لنفسه ، ولا يكون مؤثرا في نفسه ، ولا تمام المؤثر في نفسه ، فالمخلوق [ ص: 176 ] لا يكون رب نفسه ، ولا يحتاج الرب نفسه بوجه من الوجوه إليه في خلقه [52] ؛ إذ لو احتاج إليه في خلقه لم يخلقه حتى يكون ، ولا يكون حتى يخلقه ، فيلزم الدور القبلي لا المعي [53] .
وإذا لم يكن مؤثرا في نفسه فلا يكون مؤثرا في المؤثر في نفسه ( * بطريق الأولى ، فإذا قدر واجبان كل واحد منهما له تأثير ما في الآخر ، لزم أن يكون كل منهما مؤثرا في المؤثر في نفسه * ) [54] وهذا ممتنع [ كما تبين ] [55] ، . فيمتنع تقدير واجبين كل منهما مؤثر في الآخر بوجه من الوجوه ، فامتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في شيء من لوازمه إلى غيره ، سواء قدر أنه واجب أو ممكن
وهذا مما يعلم به ، فإن الصانعين إن كانا مستقلين كل منهما فعل الجميع ، كان هذا متناقضا [ ممتنعا ] امتناع أن يكون للعالم صانعان [56] لذاته ، فإن فعل أحدهما للبعض يمنع استقلال الآخر به ، فكيف باستقلاله به ؟ !
ولهذا اتفق العقلاء [57] على امتناع اجتماع مؤثرين تامين في أثر واحد ; لأن ذلك جمع بين النقيضين ؛ إذ كونه [58] وجد بهذا وحده يناقض كونه [ ص: 177 ] وجد بالآخر وحده ، وإن كانا متشاركين متعاونين ، فإن كان فعل كل واحد [59] منهما مستغنيا عن فعل الآخر وجب أن يذهب كل إله بما خلق ، فتميز مفعول هذا [ عن مفعول هذا ] [60] ، ولا يحتاج إلى الارتباط به ، وليس الأمر كذلك ، بل العالم كله متعلق بعضه ببعض ، هذا مخلوق من هذا وهذا [ مخلوق ] من هذا [61] ، وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا ، وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا ، لا يتم شيء من أمور العالم إلا بشيء [ آخر منه ] [62] .
وهذا يدل على أن العالم كله فقير إلى غيره لما فيه من الحاجة ، ويدل على أنه ليس فيه فعل لاثنين ، بل كله مفتقر إلى واحد .
فالفلك الأطلس الذي هو أعلى الأفلاك في جوفه سائر الأفلاك ، والعناصر والمولدات والأفلاك متحركات بحركات مختلفة [ مخالفة ] [63] لحركة التاسع ، فلا يجوز أن تكون حركته هي سبب تلك الحركات المخالفة لحركته إلى [64] جهة أخرى أكثر مما [65] يقال : إن الحركة الشرقية هو سببها ، وأما الحركات الغربية فهي مضادة لجهة حركته ، فلا يكون هو سببها ، [ وهذا ] [66] مما يسلمه هؤلاء [67] [ ص: 178 ] وأيضا فالأفلاك في جوفه بغير اختياره ، ومن جعل غيره فيه بغير اختياره كان مقهورا مدبرا ، كالإنسان الذي جعل في باطنه أحشاؤه ، فلا يكون واجبا بنفسه ، فأقل درجات الواجب بنفسه أن لا يكون مقهورا مدبرا ، [ فإنه إذا كان مقهورا مدبرا ] [68] كان مربوبا أثر فيه غيره ، ومن أثر فيه غيره كان وجوده [69] متوقفا على وجود ذلك الغير ، سواء كان الأثر كمالا أو نقصا ، فإنه إذا [70] كان زيادة كان كماله موقوفا على الغير ، وكماله منه فلا يكون موجودا بنفسه ، وإن كان نقصا [ كان غيره قد ][71] نقصه ، ومن نقصه غيره لم يكن ما نقصه هو واجب الوجود بنفسه [72] ، فإن [ ما ] كان [73] واجب الوجود بنفسه يمتنع عدمه ، فذاك الجزء المنقوص ليس واجب الوجود [74] ولا من لوازم واجب الوجود ، وما لم يكن كذلك لم يكن عدمه نقصا ؛ إذ النقص عدم كمال ، والكمال الممكن هو من لوازم واجب الوجود كما تقدم ، والتقدير أنه نقص ، فتبين أن من نقصه غيره شيئا من لوازم وجوده ، [ ص: 179 ] أو أعطاه [75] شيئا من لوازم وجوده ، لم يكن واجب الوجود بنفسه .
فالفلك الذي قد حشي بأجسام كثيرة بغير اختياره محتاج إلى ذلك الذي حشاه بتلك الأجسام ، فإنه إذا كان حشوه كمالا له ، لم يوجد كماله إلا بذلك الغير ، فلا يكون واجبا بنفسه ، وإن كان نقصا فيه كان غيره قد سلبه الكمال الزائل [76] بذلك النقص ، فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال ، إذا لو استلزمته لعدمت بعدمه ، وكماله من تمام نفسه ، فإذا كان جزء نفسه غير واجب ، لم تكن نفسه واجبة كما تقدم بيانه .
وأيضا ، فالفلك الأطلس إن قيل : إنه لا تأثير له [77] في شيء من العالم ، وجب أن لا يكون هو المحرك للأفلاك التي فيه ، وهي متحركة بحركته ، ولها حركة تخالف حركته ، فيكون في الفلك الواحد قوة تقتضي حركتين متضادتين ، وهذا ممتنع فإن الضدين لا يجتمعان ، ولأن المقتضي للشيء لو كان مقتضيا لضده الذي لا يجامعه ، لكان فاعلا له غير فاعل [ له ] [78] ، 8 فإن كان مريدا له [ كان مريدا ] [79] غير مريد ، وهو جمع بين [ النقيضين ] [80] ، وإن كان له تأثير في تحريك الأفلاك ، أو غير ذلك فمعلوم أنه غير مستقل بالتأثير ; لأن تلك الأفلاك لها حركات تخصها من غير تحريكه ; ولأن ما يوجد في الأرض من الآثار لا بد فيه من الأجسام [ ص: 180 ] العنصرية ، وتلك الأجسام إن لم يكن فاعلا لها فهو محتاج إلى ما لم [81] يفعله ، وإن قدر أنه المؤثر فيها فليس مؤثرا مستقلا فيها ; لأن الآثار الحاصلة فيها لا تكون [82] إلا باجتماع اتصالات وحركات تحصل بغيره .
فتبين أن تأثيره مشروط بتأثير غيره ، وحينئذ فتأثيره من كماله ، فإن المؤثر أكمل من غير المؤثر ، وهو مفتقر في هذا الكمال إلى غيره ، فلا يكون واجبا بنفسه ، فتبين أنه ليس واجبا بنفسه من هذين الوجهين ، وتبين [ أيضا ] أن فاعله [83] ليس مستغنيا عن فاعل تلك الأمور التي يحتاج إليها الفلك ، لكون الفلك ليس متميزا مستغنيا من كل وجه عن كل ما سواه ، بل هو محتاج إلى ما سواه من المصنوعات ، فلا يكون واجبا بنفسه ، ولا مفعولا لفاعل مستغن عن فاعل ما سواه .