وإذا كان الأمر في الفلك الأطلس هكذا ، فالأمر في غيره أظهر ، فأي شيء اعتبرته من العالم [1] وجدته مفتقرا إلى شيء آخر من العالم ، فيدلك ذلك مع كونه [ ممكنا مفتقرا ليس بواجب بنفسه ] [2] على [3] أنه مفتقر إلى فاعل ذلك الآخر [4] ، فلا يكون في العالم فاعلان فعل كل منهما ومفعوله مستغن عن فعل الآخر ومفعوله ، وهذا كالإنسان مثلا فإنه يمتنع أن يكون [ ص: 181 ] الذي خلقه غير الذي خلق ما [5] يحتاج إليه ، فالذي خلق مادته كمني الأبوين ودم الأم هو الذي خلقه ، والذي خلق الهواء الذي يستنشقه والماء الذي يشربه هو الذي خلقه ; لأن خالق ذلك [ لو ] [6] كان خالقا غير خالقه ، فإن كانا خالقين كل منهما مستغن عن الآخر في فعله ومفعوله ، كان ذلك ممتنعا ; لأن الإنسان محتاج إلى المادة والرزق ، فلو كان خالق مادته ورزقه غير خالقه ، لم يكن مفعول أحدهما مستغنيا عن مفعول الآخر .
فتبين [ بذلك ] [7] أنه يمتنع أن يكون للعالم فاعلان ، مفعول كل منهما مستغن عن مفعول الآخر ، كما قال تعالى : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ) [ سورة المؤمنون : 91 ] .
ويمتنع [8] أن يكونا مستقلين ; لأنه جمع بين النقيضين ، ويمتنع أن يكونا متعاونين متشاركين ، كما يوجد ذلك في المخلوقين يتعاونون على المفعولات ; لأنه حينئذ لا يكون أحدهما فاعلا إلا بإعانة الآخر له ، وإعانته فعل منه لا يحصل إلا بقدرته ، بل [ وبعلمه ] [9] وإرادته ، فلا يكون هذا معينا لذاك حتى يكون ذاك معينا لهذا ، ولا يكون ذاك [10] معينا لهذا حتى يكون هذا معينا لذاك ; وحينئذ لا يكون هذا معينا لذاك ولا ذاك [ ص: 182 ] معينا لهذا ، كما لا يكون الشيء معينا لنفسه بطريق الأولى ، فالقدرة التي بها يفعل الفاعل لا تكون حاصلة بالقدرة التي يفعل بها الفاعل الآخر ، بل إما أن تكون [11] من لوازم ذاته ، وهي قدرة الله تعالى ، أو تكون حاصلة بقدرة غيره كقدرة العبد ، فإذا قدر ربان متعاونان [12] لا يفعل أحدهما حتى يعينه الآخر ، لم يكن أحدهما قادرا على الفعل بقدرة لازمة لذاته ، ولا يمكن أن تكون قدرته حاصلة من الآخر ; لأن الآخر لا يجعله قادرا حتى يكون هو قادرا ، فإذا لم تكن قدرة واحد منهما من نفسه ، لم يكن لأحدهما قدرة بحال .
فتبين ، وتبين امتناع كون العالم له ربان ، وتبين امتناع كون واجب الوجود له كمال يستفيده من غيره وهو سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه ، وذلك الكمال لازم له ; لأن الكمال الذي يكون كمالا [ للموجود ] امتناع أن يؤثر في واجب الوجود غيره ، [13] ، إما أن يكون واجبا له ، أو ممتنعا عليه ، أو جائزا عليه ، فإن كان واجبا له فهو المطلوب ، وإن كان ممتنعا لزم أن يكون الكمال الذي للموجود ممكنا للممكن ممتنعا على الواجب ، فيكون الممكن أكمل من الواجب .