أو تريد به شيئا يستلزم نفي اتصافه بالصفات بحيث لا يرى ، ولا يتكلم [1] بكلام يقوم به ، ولا يباين خلقه ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل منه شيء ، ولا تعرج إليه الملائكة ولا الرسول ، ولا ترفع إليه [ ص: 213 ] الأيدي ، ولا يعلو على [2] شيء ، ولا يدنو منه شيء ، ولا هو داخل [3] العالم ولا خارجه ، ولا مباين له ولا محايث [4] له ، ونحو ذلك من المعاني السلبية التي لا يعقل أن [5] يتصف بها إلا المعدوم .
فإن قال : أردت الأول .
قيل : المعنى صحيح ، لكن المطلقون لهذا النفي أدخلوا فيه [6] هذه المعاني السلبية ، ويجعلون ما يوصف به [7] من صفات الكمال الثبوتية مستلزمة لكونه جسما ، فكل [8] ما يذكر من الأمور الوجودية يقولون : هذا تجسيم ولا ينتفي [9] ما يسمونه تجسيما إلا بالتعطيل [10] المحض .
ولهذا كل من نفى شيئا قال لمن أثبته : إنه مجسم [11] .
[ فغلاة النفاة من الجهمية والباطنية يقولون لمن أثبت له الأسماء الحسنى : إنه مجسم . ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم يقولون لمن أثبت الصفات : إنه مجسم . ومثبتة الصفات دون [ ص: 214 ] ما يقوم به من الأفعال الاختيارية يقولون لمن أثبت ذلك : إنه مجسم ; وكذلك سائر النفاة .
وكل من نفى ما أثبته الله ورسوله بناء على أن إثباته تجسيم يلزمه فيما أثبته الله ورسوله ] [12] .
ومنتهى هؤلاء النفاة إلى إثبات وجود مطلق ، وذات مجردة عن الصفات ، والعقل الصريح يعلم أن الوجود المطلق والذات المجردة عن الصفات إنما يكون في الأذهان لا في الأعيان ، فالذهن يجرد هذا ويقدر هذا التوحيد الذي يفرضونه ، كما يقدر إنسانا مطلقا وحيوانا مطلقا ، ولكن ليس كل ما قدرته الأذهان كان وجوده في الخارج في حيز الإمكان .
ومن هنا يظهر غلط من قصد إثبات إمكان هذا بالتقدير العقلي ، كما ذكره الرازي [13] ، فقال [14] : العقل يعلم أن الشيء : إما أن يكون متحيزا ، وإما أن يكون قائما بالمتحيز ، وإما أن يكون لا متحيزا ولا حالا [15] .
[ ص: 215 ] فيقال له : تقدير العقل لهذه الأقسام لا يقتضي وجودها في الخارج ولا إمكان وجودها في الخارج ، فإن هذا مثل أن يقال : الشيء إما أن يكون واجبا ، وإما أن يكون ممكنا ، وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا ; والشيء إما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا ، وإما أن يكون لا قديما ولا محدثا ; والشيء إما أن يكون قائما بنفسه ، وإما [ أن يكون ] قائما بغيره [16] ، وإما أن يكون لا قائما بنفسه ولا قائما بغيره ، والشيء إما أن يكون موجودا ، وإما أن يكون معدوما ، وإما أن يكون لا موجودا ولا معدوما .
فإن أمثال هذه التقديرات والتقسيمات لا تثبت إمكان الشيء ووجوده في الخارج ، بل إمكان الشيء يعلم بوجوده أو بوجود [17] نظيره أو وجود ما يكون الشيء أولى بالوجود من ذلك الذي علم وجوده ، أو بنحو ذلك من الطرق .
والإمكان [18] الخارجي يثبت بمثل هذه الطرق ، وأما الإمكان الذهني فهو أن لا يعلم امتناع الشيء ، ولكن عدم العلم بالامتناع ليس علما بالإمكان .
فإن قال النافي : كل ما اتصف بأنه حي عليم قدير ، أو ما كان له حياة وعلم وقدرة ، أو ما يجوز أن يرى ، أو ما يكون فوق العالم ، أو نحو ذلك [ ص: 216 ] من المعاني التي أثبتها الكتاب والسنة ، لا يوصف بها إلا ما هو [ جسم ] [19] مركب من الجواهر المنفردة [20] أو من المادة والصورة ، وذلك ممتنع .
قيل : جمهور العقلاء لا يقولون : إن هذه الأجسام المشهودة - كالسماء والكواكب - مركبة لا من الجواهر الفردة [21] ولا من المادة والصورة ، فكيف يلزمهم أن يقولوا بلزوم هذا التركيب في رب العالمين ؟ !
وقد بين في غير هذا الموضع فساد حجج الطائفتين وفساد [22] حجج نفيهم لهذين المعنيين ، وأن [23] هؤلاء يبطلون حجة هؤلاء الموافقين لهم في الحكم ، وهؤلاء يبطلون حجة هؤلاء ، فلم يتفقوا على صحة حجة واحدة بنفي ما جعلوه مركبا ، بل هؤلاء يحتجون بأن المركب مفتقر إلى أجزائه ، فيبطل أولئك هذه الحجة ، وهؤلاء يحتجون بأن ما كان كذلك لم يخل عن الأعراض الحادثة ، وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث ، وأولئك يبطلون حجة هؤلاء ، بل يمنعونهم المقدمتين ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذه الموضع ، وإنما نبهنا [ هنا ] [24] على هذا الباب .
والأصل الذي [ يجب ] على المسلمين [25] أن ما ثبت عن الرسول وجب [ ص: 217 ] الإيمان به ، فيصدق خبره ويطاع أمره ، وما لم يثبت عن الرسول فلا يجب الحكم فيه بنفي ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم ويعلم صحة نفيه أو إثباته .
وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال ، والفتن والخبال ، والقيل والقال ، وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء .
وكل من الطائفتين نفاة الجسم ومثبتيه موجودون في الشيعة وفي أهل السنة المقابلين للشيعة ، أعني الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة .
وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم ، كذا نقل ابن حزم وغيره .


