السادس : أن قوله : " على أن [1] ما رووه فالقرآن يخالف ذلك ؛ لأن الله تعالى [ ص: 199 ] قال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ سورة النساء : 11 ] ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه [ - صلى الله عليه وسلم - ] .
فيقال ] : أولا : ليس في عموم لفظ الآية [ ما يقتضي ] [2] ، فإن الله تعالى قال : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يورث يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) [ سورة النساء : 11 ] وفي الآية الأخرى : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ) إلى قوله : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ) [ سورة النساء : 12 ] ، وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطب بها .
و " كاف " الخطاب يتناول من قصده المخاطب ، فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقا لا تقبل التخصيص [3] [ فكيف بضمير المخاطب ؟ ] [4] فإنه لا يتناول إلا من قصد بالخطاب دون من لم يقصد . ولو قدر أنه عام يقبل التخصيص ، فإنه عام للمقصودين بالخطاب ، وليس فيها ما يقتضي كون النبي - صلى الله عليه وسلم - من المخاطبين بهذا [5] .
[ ص: 200 ] فإن قيل : هب أن [ الضمائر ] [6] ضمائر التكلم [7] والخطاب والغيبة لا تدل بنفسها على شيء بعينه ، لكن بحسب ما يقترن بها [8] ؛ فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطب بالخطاب ، وضمائر التكلم [9] لمن يتكلم كائنا من كان . لكن قد عرف أن الخطاب [10] بالقرآن هو للرسول [11] - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين [12] جميعا ، كقوله تعالى : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) [ سورة البقرة : 183 ] وقوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) [ سورة المائدة : 6 ] ونحو ذلك . وكذلك قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ سورة النساء : 11 ] .
قيل : بل . كقوله تعالى : ( كاف الجماعة في القرآن تارة تكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، وتارة تكون لهم دونه واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ) [ سورة الحجرات : 7 ] ؛ فإن هذه الكاف للأمة دون النبي - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 201 ] وكذلك قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [ سورة التوبة : 128 ] .
وكذلك قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) [ سورة محمد : 33 ] ، وقوله تعالى : ( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) [ سورة آل عمران : 31 ] [13] ونحو ذلك ؛ فإن كاف الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل تناولت من أرسل [14] . إليهم فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) [ سورة النساء : 11 ] مثل هذه الكافات ، فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القرآن .
ومثل هذه الآية قوله تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) [ سورة النساء : 3 ، 4 ] ، فإن الضمير هنا [15] في " خفتم " و " تقسطوا " و " انكحوا " و " طاب لكم " و " ما ملكت أيمانكم " إنما يتناول الأمة دون نبيها - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإن [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] [16] له أن يتزوج أكثر من أربع ، وله أن يتزوج بلا مهر ، كما ثبت ذلك بالنص والإجماع .
[ ص: 202 ] فإن قيل : ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة [17] ، فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول خاطبهم بطاعته ومحبته ، وذكر بعثه [18] إليهم ، علم أنه ليس داخلا في ذلك .
قيل : وكذلك آية الفرائض لما قال : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) [ سورة النساء : 11 ] ، وقال : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ) [ سورة النساء : 11 ] ، ثم قال : ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " [ سورة النساء : 13 ، 14 ] ، فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول ، وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض ، وأنهم إن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب ، وإن خالفوا الله والرسول [19] استحقوا العقاب [20] ، وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه ، أو يمنعوا الوارث ما يستحقه - دل ذلك على أن المخاطبين المسلوبين الدراية [ لما ذكر ] [21] ، الموعودين على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدي حدوده [ ص: 203 ] فيما قدره من المواريث وغير ذلك ، لم يدخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، كما لم يدخل في نظائرها .
ولما كان ما ذكره من تحريم تعدي الحدود عقب ذكر الفرائض المحدودة ، دل على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قدر له ، ودل على أنه لا تجوز الوصية لهم ، وكان هذا ناسخا لما أمر به أولا من الوصية للوالدين والأقربين .
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع : " رواه أهل السنن إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " وغيره ، [ ورواه أهل السير ] كأبي داود [22] ، واتفقت الأمة عليه ، حتى ظن بعض الناس أن آية الوصية إنما نسخت بهذا الخبر ؛ لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق [23] الوصية منافاة ، والنسخ لا يكون إلا مع تنافي الناسخ والمنسوخ .
[ ص: 204 ] وأما السلف والجمهور فقالوا : الناسخ هو آية الفرائض ؛ لأن الله تعالى قدر فرائض محدودة ، ومنع من تعدي حدوده ، فإذا أعطى [24] الميت لوارثه أكثر مما حده الله له ، فقد تعدى حد الله ، فكان ذلك محرما ، فإن ما زاد على المحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة ، فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالما [25] له .
ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب [26] : هل يرد عليه أم لا ؟ فمن منع الرد قال : الميراث حق لبيت المال ، فلا يجوز أن يعطاه غيره . ومن جوز الرد قال : إنما يوضع المال في بيت المال ؛ لكونه ليس له مستحق خاص ، وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص ، كما قال - رضي الله عنه - : " ذو السهم أولى ممن لا سهم له " . ابن مسعود
والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسول - صلى الله عليه وسلم - أصلا .
فإن قيل : فلو مات أحد من أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورثه ، كما ماتت بناته الثلاث في حياته ، ومات ابنه إبراهيم ؟ .
قيل : الخطاب في الآية للموروث دون الوارث [27] ، فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم [28] موروثين [29] أن يدخلوا إذا كانوا وارثين .
[ ص: 205 ] ( * يوضح ذلك أنه قال : ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ) ، [ سورة النساء : 11 ] فذكره بضمير الغيبة لا بضمير الخطاب ، وهو عائد على [30] المخاطب بكاف الخطاب [31] وهو الموروث ، فكل من سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وارثا لمن خوطب ، ولم يخاطب هو بأن يورث أحدا شيئا ، وأولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شملهم [32] كاف الخطاب فوصاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، - رضي الله عنها - وصاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولأبويها لو ماتت في حياتهما لكل واحد منهما السدس * ) ففاطمة [33] .
فإن قيل : ففي آية الزوجين قال : ( ولكم ) ، ( ولهن ) .
قيل : أولا : الرافضة يقولون : إن زوجاته [34] لم يرثنه ولا عمه ، وإنما ورثته العباس [35] البنت وحدها .
الثاني [36] : أنه بعد نزول الآية لم يعلم أنه ماتت واحدة [37] من أزواجه ولها مال حتى يكون وارثا لها . وأما - رضي الله عنها - فماتت خديجة بمكة ، وأما [ ص: 206 ] فماتت زينب بنت خزيمة الهلالية بالمدينة ، لكن من أين نعلم أنها خلفت مالا ، وأن آية الفرائض كانت قد نزلت . فإن قوله تعالى : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم ) [ سورة النساء : 12 ] إنما تناول من ماتت له زوجة ولها تركة ، فمن لم تمت زوجته أو ماتت [38] ولا مال لها لم يخاطب [39] بهذه الكاف .
وبتقدير ذلك فلا يلزم من شمول إحدى الكافين له شمول الأخرى ، بل ذلك موقوف على الدليل .
فإن قيل : فأنتم تقولون : إن ما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس . فإن الله إذا أمره بأمر تناول الأمة ، وإن ذلك قد عرف بعادة [40] الشرع . ولهذا قال تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) [ سورة الأحزاب : 37 ] ، فذكر أنه أحل ذلك له ؛ ليكون [41] حلالا لأمته ولما خصه بالتحليل قال : ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) [ سورة الأحزاب : 50 ] فكيف يقال : إن هذه الكاف لم تتناوله ؟ .
قيل : من المعلوم أن من قال ذلك قاله لما عرف من عادة الشارع [42] في خطابه ، كما يعرف من عادة الملوك إذا خاطبوا أميرا بأمر أن نظيره مخاطب [ ص: 207 ] بمثل ذلك ، فهذا يعلم بالعادة والعرف [43] المستقر [44] في خطاب المخاطب ، كما يعلم معاني الألفاظ بالعادة المستقرة [45] لأهل تلك اللغة : أنهم يريدون ذلك المعنى .
وإذا كان كذلك ؛ فالخطاب بصيغة الجمع قد تنوعت عادة القرآن فيها : تارة تتناول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة لا تتناوله ، فلا يجب أن يكون هذا الموضع مما تناوله [46] وغاية ما يدعي المدعي أن يقال : الأصل شمول الكاف له ، كما يقول : الأصل مساواة أمته له في الأحكام ، ومساواته لأمته في الأحكام ، حتى يقوم دليل التخصيص . ومعلوم أن له خصائص كثيرة خص بها عن أمته . وأهل السنة يقولون : ، فلا يجوز أن ينكر اختصاصه بهذا الحكم إلا كما ينكر اختصاصه من خصائصه أنه لا يورث [47] بسائر [48] الخصائص ، لكن للإنسان أن يطالب بدليل الاختصاص . ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة ، بل المتواترة [ عنه ] [49] في [50] أنه لا يورث ، أعظم من الأحاديث المروية في كثير من خصائصه ، مثل اختصاصه بالفيء [51] وغيره .
[ ص: 208 ] وقد تنازع السلف والخلف في كثير من الأحكام : هل هو من خصائصه ؟ كتنازعهم في الفيء والخمس ، هل كان ملكا له أم لا ؟ وهل أبيح له من [52] حرم عليه من النساء أم لا ؟ .
ولم يتنازع السلف في أنه لا يورث ، لظهور ذلك عنه واستفاضته في أصحابه . وذلك أن الله تعالى قال في كتابه : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) [ سورة الأنفال : 1 ] ، وقال في [ كتابه ] [53] : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) [ سورة الأنفال : 41 ] ، [ وقال في كتابه : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) ] [54] [ سورة الحشر : 7 ] . ولفظ آية الفيء كلفظ آية الخمس ، وسورة الأنفال نزلت بسبب بدر ، فدخلت الغنائم في ذلك بلا ريب ، وقد يدخل في ذلك سائر ما نفله الله للمسلمين من مال الكفار . كما أن لفظ " الفيء " قد يراد به كل ما أفاء الله على المسلمين ، فيدخل فيه الغنائم ، وقد يختص ذلك بما أفاء الله عليه مما لم يوجف عليه المسلمون [55] بخيل ولا ركاب .
ومن الأول [56] قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " ليس لي مما أفاء الله [ ص: 209 ] عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم [57] . فلما أضاف هذه الأموال إلى الله والرسول رأى طائفة من لعلماء [58] أن [ هذه ] [59] الإضافة تقتضي أن ذلك ملك للرسول - صلى الله عليه وسلم - كسائر أملاك الناس ، ثم جعلت الغنائم بعد ذلك للغانمين ، وخمسها لمن سمى [60] ، وبقي الفيء ، أو أربعة أخماسه [61] ، ملكا للرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يقول ذلك ، وطائفة من أصحاب الشافعي ، وإنما ترددوا في الفيء ، فإنه عامة العلماء لا يخمسون الفيء ، وإنما قال بتخميسه أحمد وطائفة من أصحاب الشافعي أحمد [62] [ ص: 210 ] كالخرقي . وأما مالك وأبو حنيفة وجمهور أصحابه وسائر أئمة المسلمين فلا يرون تخميس الفيء ، وهو ما أخذ من المشركين بغير قتال ، كالجزية والخراج . وأحمد
وقالت طائفة ثانية من العلماء : بل [63] هذه الإضافة لا تقتضي أن تكون الأموال ملكا للرسول ، بل تقتضي أن يكون أمرها إلى الله والرسول ؛ فالرسول ينفقها فيما أمره الله [ به ] [64] .
كما ثبت في صحيح عن البخاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أبي هريرة " إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت [65] . .
وقال أيضا في الحديث الصحيح : " تسموا [66] باسمي ، ولا تكنوا [67] بكنيتي ، فإنما أنا قاسم أقسم بينكم " [68] .
[ ص: 211 ] فالرسول مبلغ عن الله أمره ونهيه ، فالمال المضاف إلى الله ورسوله ، هو المال الذي يصرف فيما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب ، بخلاف الأموال التي ملكها الله لعباده ، فإن لهم صرفها في المباحات .
ولهذا لما قال الله في المكاتبين : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) [ سورة النور : 33 ] ذهب أكثر العلماء ، كمالك وغيرهما ، إلى أن المراد : آتاكم [ الله ] وأبي حنيفة [69] من الأموال التي ملكها الله لعباده [70] ، فإنه لم يضفها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بخلاف ما أضافه إلى الله والرسول ، فإنه لا يعطى إلا فيما أمر الله به ورسوله .
فالأنفال لله والرسول ؛ لأن [71] قسمتها إلى الله والرسول ليست كالمواريث التي قسمها الله بين المستحقين . وكذلك مال الخمس ومال الفيء .
[ ص: 212 ] وقد تنازع العلماء في الخمس والفيء ، فقال مالك [ وغيره من العلماء ] [72] : مصرفهما واحد ، وهو فيما أمر الله به ورسوله ، وعين ما عينه [73] من اليتامى والمساكين وابن السبيل تخصيصا لهم بالذكر . وقد روي عن ما يوافق ذلك ، وأنه جعل مصرف الخمس من الركاز مصرف الفيء ، وهو تبع لخمس الغنائم أحمد بن حنبل [74] . وقال ، الشافعي في الرواية المشهورة : الخمس وأحمد [75] يقسم على خمسة أقسام . وقال : على ثلاثة ، فأسقط أبو حنيفة [76] سهم الرسول وذوي القربى بموته - صلى الله عليه وسلم - ، وقال [77] داود بن علي : بل مال الفيء [ أيضا ] [78] يقسم [ على خمسة أقسام ] [79] . والقول الأول أصح [ الأقوال ] [80] كما قد بسطت أدلته في غير هذا الموضع [81] ، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسنة خلفائه الراشدين .
فقوله : [82] ( لله وللرسول ) في الخمس والفيء ، كقوله في الأنفال : ( لله [ ص: 213 ] والرسول ) فالإضافة [83] للرسول ؛ لأنه هو الذي يقسم هذه الأموال بأمر الله ، ليست ملكا لأحد . وقوله صلى الله عليه وسلم : " " يدل على أنه ليس بمالك للأموال ، وإنما هو منفذ لأمر الله عز وجل فيها ، وذلك لأن الله خيره بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا رسولا ، فاختار أن يكون عبدا رسولا ، وهذا أعلى المنزلتين ، فالملك يصرف المال فيما أحب إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت [84] ولا إثم عليه ، والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أمر به ، فيكون فيما [85] يفعله عبادة الله وطاعة له [86] ، ليس في قسمه ما هو من المباح الذي لا يثاب عليه ، بل يثاب عليه كله .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " " يؤيد ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم [87] ذلك ، فإن قوله : " لي " أي أمره إلي ، ولهذا قال : " " . وعلى هذا الأصل فما كان بيده من أموال والخمس مردود عليكم بني النضير وفدك وخمس خيبر وغير ذلك ، هي كلها من مال [88] الفيء الذي [89] لم يكن يملكه فلا [90] يورث عنه ، وإنما يورث عنه ما يملكه .
[ ص: 214 ] بل تلك الأموال يجب أن تصرف فيما يحبه الله ورسوله من الأعمال . وكذلك قال [ [ - رضي الله عنه - ] أبو بكر ] الصديق [91] . وأما ما قد يظن أنه ملكه ، كمال أوصى له [92] به [ مخيريق ] [93] وسهمه من خيبر [94] ، فهذا إما أن يقال : حكمه حكم المال الأول ، وإما أن يقال : هو ملكه ، ولكن حكم الله في حقه أن يأخذ من المال حاجته ، وما زاد على ذلك يكون صدقة ولا يورث .
كما في الحديث الصحيح عن - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( * أبي هريرة [95] ورثتي دينارا ولا درهما ، وما تركت بعد نفقة [96] نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة " " لا يقتسم [97] . وفي الصحيحين عن - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال * ) أبي هريرة [98] : " أخرجه لا نورث ما [ ص: 215 ] تركناه فهو صدقة عن جماعة منهم البخاري - رضي الله عنه - ورواه أبو هريرة عنه وعن غيره مسلم [99] .
يبين ذلك أن هذا مذكور في سياق قوله تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) ، [ سورة النساء : 3 ، 4 ] إلى قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ سورة النساء : 11 ] .
ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخاطب بهذا ، فإنه ليس مخصوصا بمثنى ولا ثلاث ولا رباع ، بل له أن يتزوج أكثر من ذلك ، ولا مأمورا بأن يوفي كل امرأة صداقها ، بل له أن يتزوج من تهب نفسها له بغير صداق . كما قال تعالى [100] : ( ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ) [ سورة الأحزاب : 50 ] إلى قوله : ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما ) [ سورة الأحزاب : 50 ] .
وإذا كان سياق الكلام إنما هو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية .
[ ص: 216 ] فإن قيل : بل الخطاب [101] متناول له وللأمة في عموم هذه الآية [102] ، لكن خص هو من آية النكاح والصداق .
قيل : وكذلك خص من آية الميراث ، فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء [103] قيل : إن لفظ الآية شمله وخص منه ، أو قيل : إنه لم يشمله لكونه ليس [104] من المخاطبين : يقال مثله هنا [105] .