الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " قالت الإمامية إذا رأينا المخالف لنا يورد مثل [2] هذه الأحاديث ، ونقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات ، وجب علينا المصير إليها ، وحرم العدول عنها " .

                  والجواب أن يقال : لا ريب أن رجالكم الذين وثقتموهم غايتهم أن يكونوا من جنس من يروي هذه الأحاديث من الجمهور ، فإذا كان أهل العلم [ ص: 412 ] يعلمون بالاضطرار أن هؤلاء كذابون ، وأنتم أكذب منهم وأجهل ، حرم عليكم العمل بها ، والقضاء بموجبها ، والاعتراض على هذا الكلام من وجوه :

                  أحدها : أن يقال لهؤلاء الشيعة : من أين لكم أن الذين نقلوا هذه الأحاديث في الزمان القديم ثقات ، وأنتم لم تدركوهم ولم تعلموا أحوالهم ، ولا لكم كتب مصنفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يميز بها بين الثقة وغيره ، ولا لكم أسانيد تعرفون رجالها ، بل علمكم بكثير مما في أيديكم شر من علم كثير من اليهود والنصارى بما في أيديهم ، بل أولئك معهم كتب وضعها لهم هلال وشماس [3] . . . ، وليس عند جمهورهم ما يعارضها .

                  وأما أنتم فجمهور المسلمين دائما يقدحون في روايتكم ، ويبينون [4] كذبكم ، وأنتم ليس لكم علم بحالهم ، ثم قد علم بالتواتر الذي لا يمكن حجبه [5] كثرة الكذب ، وظهوره في الشيعة من زمن علي وإلى اليوم ، وأنتم تعلمون أن أهل الحديث يبغضون الخوارج ويروون فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة ، وقد روى البخاري [ ص: 413 ] بعضها ، وروى مسلم عشرة منها ، وأهل الحديث متدينون بما صح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا فلم يحملهم [6] بغضهم للخوارج [7] على الكذب عليهم ، بل جربوهم فوجدوهم صادقين ، وأنتم يشهد عليكم أهل الحديث ، والفقهاء ، والمسلمون ، والتجار ، والعامة ، والجند ، وكل من عاشركم وجربكم قديما وحديثا أن طائفتكم أكذب الطوائف ، وإذا وجد فيها صادق فالصادق في غيرها أكثر ، وإذا وجد في غيرها كاذب فالكاذب فيها أكثر .

                  ولا يخفى هذا على عاقل منصف ، وأما من اتبع هواه فقد أعمى الله قلبه ، ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا .

                  وهذا الذي ذكرناه معروف عند أهل العلم قديما وحديثا ، كما قد ذكرنا بعض أقوالهم حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك : الدين لأهل الحديث ، والكذب للرافضة ، والكلام للمعتزلة ، والحيل لأهل الرأي أصحاب فلان ، وسوء التدبير لآل أبي فلان ، وهو كما قال ، فإن الدين هو ما بعث الله بهمحمدا صلى الله عليه وسلم ، وأعلم الناس ( به ) [8] أعلمهم بحديثه وسنته ، وأما الكلام فأشهر الطوائف به هم المعتزلة ، ولهذا كانوا أشهر الطوائف بالبدع عند الخاصة .

                  وأما الرافضة فهم المعروفون بالبدعة [9] عند [10] الخاصة والعامة حتى أن أكثر العامة لا تعرف في مقابلة الشيء إلا الرافضي [11] . [12] " لظهور [ ص: 414 ] مناقضتهم لما جاء به الرسول عليه السلام عند الخاصة والعامة [13] . ( 1 ) [14] فهم عين على ما جاء به حتى الطوائف الذين ليس لهم من الخبرة بدين الرسول ما لغيرهم إذا قالت لهم الرافضة : " نحن مسلمون " يقولون : أنتم جنس آخر .

                  ولهذا الرافضة يوالون أعداء الدين الذين يعرف كل أحد معاداتهم من اليهود ، والنصارى والمشركين : مشركي الترك ، ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين ، وسادات المتقين ، وهم الذين أقاموه وبلغوه ونصروه .

                  ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام .

                  وأما قصة الوزير ابن العلقمي وغيره ، كالنصير الطوسي مع الكفار ، وممالأتهم على المسلمين - فقد عرفها الخاصة والعامة .

                  وكذلك من كان منهم بالشام : ظاهروا المشركين على المسلمين ، وعاونوهم معاونة عرفها الناس .

                  وكذلك لما انكسر عسكر المسلمين ، لما قدم غازان ، ظاهروا الكفار النصارى ، وغيرهم من أعداء المسلمين ، وباعوهم أولاد المسلمين - بيع العبيد - وأموالهم ، وحاربوا المسلمين محاربة ظاهرة ، وحمل بعضهم راية الصليب .

                  وهم كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديما على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم .

                  [ ص: 415 ] وقد دخل فيهم أعظم الناس نفاقا من النصيرية ، والإسماعيلية ونحوهم ، ممن هو أعظم كفرا في الباطن ، ومعاداة لله ورسوله ، من اليهود والنصارى .

                  فهذه الأمور وأمثالها مما هي ظاهرة مشهورة يعرفها الخاصة والعامة توجب ظهور مباينتهم للمسلمين ومفارقتهم للدين ، ودخولهم في زمرة الكفار والمنافقين حتى يعدهم من رأى أحوالهم جنسا آخر غير جنس المسلمين ، فإن المسلمين الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق والغرب قديما وحديثا هم الجمهور ، والرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام ، ونقض عراه ، وإفساد قواعده ، والقدر الذي عندهم من الإسلام إنما قام بسبب قيام الجمهور به .

                  ولهذا قراءة القرآن فيهم قليلة ، ومن يحفظه حفظا جيدا ، فإنما تعلمه من أهل السنة ، وكذلك الحديث إنما يعرفه [15] ويصدق فيه ، ويؤخذ عن أهل السنة ، وكذلك الفقه ، والعبادة ، والزهد ، والجهاد ، والقتال إنما هو لعساكر أهل السنة ، وهم الذين حفظ الله بهم الدين علما وعملا ، بعلمائهم ، وعبادهم ، ومقاتليهم

                  [16] والرافضة من أجهل الناس بدين الإسلام ، وليس للإنسان منهم شيء يختص به [17] إلا ما يسر عدو الإسلام ، ويسوء وليه فأيامهم في الإسلام [ ص: 416 ] كلها سود ، وأعرف الناس بعيوبهم وممادحهم [18] أهل السنة لا تزال تطلع منهم على أمور غيرها عرفتها [19] ، كما قال تعالى في اليهود : ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) ( سورة المائدة : 13 ) .

                  ولو ذكرت بعض ما عرفته منهم بالمباشرة ونقل الثقات ، وما رأيته في كتبهم - لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير .

                  وهم الغاية في الجهل وقلة العقل ، يبغضون من الأمور ما لا فائدة لهم في بغضه ، ويفعلون من الأمور ما لا منفعة لهم فيه إذا قدر أنهم على حق ، مثل نتف النعجة ، حتى كأن لهم عليها ثأرا كأنهم ينتفون عائشة ، وشق جوف الكبش [20] " كأنهم يشقون جوف عمر ، فهل فعل هذا أحد من طوائف المسلمين بعدوه غيرهم ؟ !

                  ولو كان مثل هذا مشروعا لكان بأبي جهل وأمثاله أولى .

                  [21] ومثل كراهتهم للفظ العشرة لبغضهم للرجال العشرة .

                  وقد ذكر الله لفظ العشرة في غير موضع من القرآن ، كقوله: ( والفجر وليال عشر ) ( سورة الفجر : 1 ، 2 ) ، وقوله: ( وأتممناها بعشر ) ( سورة الأعراف : 142 ) ، ( تلك عشرة كاملة ) ( سورة البقرة : 196 ) .

                  [ ص: 417 ] وأما التسعة فذكرها في معرض الذم ، كقوله : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) ( سورة النمل : 48 ) ، فهل كره المسلمون التكلم بلفظ التسعة : [22] لأجل أولئك التسعة ، وهم يختارون التكلم بلفظ التسعة : [23] على لفظ العشرة ؟ !

                  وكذلك كراهيتهم لأسام سمي بها من يبغضونه ، وقد كان من الصحابة من تسمى بأسماء تسمى بها عدو الإسلام مثل الوليد الذي هو الوحيد ، وكان ابنه من خيار المسلمين ، واسمه الوليد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت له في الصلاة ، ويقول : " اللهم نج الوليد بن الوليد " كما رواه أهل الصحيحين

                  [24] ومثل أبي بن خلف الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي المسلمين أبي بن كعب [25] وغيره ، ومثل عمرو بن ود ( العامري ) [26] ، وفي الصحابة عمرو بن أمية ، وعمرو بن العاص ، ومثل هذا كثير .

                  ولم يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم رجل من الصحابة لكون كافر سمي به .

                  فلو قدر كفر من يبغضونه لكان كراهتهم لمثل أسمائهم في غاية الجهل مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم بها .

                  ويقال لهم : كل من جرب من أهل العلم والدين الجمهور علم أنهم [ ص: 418 ] لا يرضون بالكذب ولو وافق أغراضهم ، فكم [27] يروون لهم في فضائل الخلفاء الثلاثة وغيرها أحاديث بأسانيد خير من أسانيد الشيعة ، ويرويها مثل أبي نعيم ، والثعلبي ، وأبي بكر النقاش ، والأهوازي ، وابن عساكر ، وأمثال هؤلاء ، ولا يقبل علماء الحديث منها شيئا ! بل إذا كان الراوي عندهم مجهولا توقفوا في روايته ، وأما أنتم معاشر الرافضة فقد رأيناكم تقبلون كل ما يوافق [28] رأيكم وأهواءكم ، لا تردون غثا ولا سمينا .

                  ويقال لكم : إذا كان عند الجمهور من الأحاديث الصحيحة المعروفة عند من يعلم المسلمون كلهم صدقه وعلمه ، وأنتم ممن يعلم ذلك ، أحاديث متلقاة بالقبول ، بل متواترة توجب العلم الضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب ، تناقض هذه الأدلة التي رواها طائفة مجهولة ، أو معروفة بالكذب منكم ومن الجمهور ، فهل يمكن أن يدفع [29] الناس ما علموه بالضرورة ، وما علموه مستفيضا [30] بنقل الثقات الأثبات الذين يعرف صدقهم وضبطهم ، هل يمكن دفع هذا بمثل هذه الروايات المسيبة التي لا زمام لها ولا خطام ؟ !

                  ولو روى رجل أن الصلوات [31] كانت أكثر من خمس ، وأن الصوم الواجب شهران ، وأن على المسلمين حج بيت آخر ، هل كان الطريق إلى تكذيب هذا إلا من جنس الطريق إلى تكذيبهم ؟ !

                  وقد نبهنا في هذا الرد على طرق مما به يعلم كذب ما يعتمدون عليه [ ص: 419 ] غير طرق أهل الحديث ، وبينا كذبهم : تارة بالعقل ، وتارة بما علم بالقرآن ، وتارة بما علم بالتواتر ، وتارة بما أجمع الناس كلهم عليه .

                  ومن المعلوم أن الأخبار المخالفة للقرآن والتواتر والإجماع ، والمخالفة للعقل يعلم بطلانها ، وهذا من [32] جملة الطرق التي يعلم بها طرق ما يناقضون به مذهب أهل السنة من الأخبار ، وهم لا يعتمدون في أدلتهم إلا على أحد ثلاثة أشياء : إما نقل كاذب ، وإما دلالة مجملة مشبهة [33] ، وإما قياس فاسد ، وهذا حال كل من احتج بحجة فاسدة نسبها إلى الشريعة ، فإن عمدته إما نص ، وإما قياس ، والنص يحتاج إلى صحة الإسناد ، ودلالة المتن ، فلا بد أن يكون النص ثابتا عن الرسول ، ولا بد أن يكون دالا [34] على المطلوب .

                  والحجج الباطلة السمعية إما نقل كاذب ، وإما نقل صحيح لا يدل ، وإما قياس فاسد ، وليس للرافضة وغيرهم من أهل الباطل حجة سمعية إلا من هذا الجنس ، وقولنا : " نقل " يدخل فيه كلام الله ورسوله ، وكلام أهل الإجماع عند من يحتج به ، فإن الرافضة لا تحتج بالإجماع . والأفعال والإقرار والإمساك يجري مجرى ذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية