الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " وأما علم الطريقة فإليه منسوب ; فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه " .

                  والجواب : أن يقال : أولا : أما أهل المعرفة وحقائق الإيمان ، المشهورين في الأمة بلسان الصدق ، فكلهم متفقون على تقديم أبي بكر ، وأنه أعظم الأمة في الحقائق الإيمانية والأحوال العرفانية ، وأين من يقدمونه في الحقائق التي هي أفضل الأمور عندهم - إلى من ينسب إليه الناس لباس الخرقة ؟

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " [2] ، فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان ؟

                  [ ص: 44 ] ويقال : ثانيا : الخرق متعددة ، أشهرها خرقتان : خرقة إلى عمر ، وخرقة إلى علي ، فخرقة عمر لها إسنادان : إسناد إلى أويس القرني ، وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني ، وأما الخرقة المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري ، والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي ; فإن الجنيد صحب السري [ السقطي ] [3] ، والسري صحب معروفا الكرخي بلا ريب .

                  وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع ، فتارة يقولون : إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا ، وهذا باطل قطعا ، لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل ، كأبي نعيم ، وأبي الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف . ومعروف كان منقطعا في الكرخ ، وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهدة [4] بعده ، وجعل شعاره لباس الخضرة ، ثم رجع عن ذلك وأعاد شعار السواد .

                  ومعروف لم يكن ممن يجتمع [5] بعلي بن موسى ، ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به ، أو أخذ عنه شيئا ، بل ولا يعرف أنه رآه ، ولا كان معروف بوابه ، ولا أسلم على يديه ، وهذا كله كذب .

                  وأما الإسناد الآخر فيقولون : إن معروفا صحب داود الطائي ، وهذا أيضا لا أصل له ، وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها . وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي ، وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة .

                  [ ص: 45 ] وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن البصري [6] ، وهذا صحيح ; فإن الحسن كان له أصحاب ، كثيرون مثل أيوب السختياني ، ويونس بن عبيد ، وعبد الله بن عوف ، ومثل محمد بن واسع ، ومالك بن دينار ، وحبيب العجمي ، وفرقد السبخي ، وغيرهم من عباد البصرة .

                  وفيها أن الحسن صحب عليا ، وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة ; فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي ، وإنما أخذ عن أصحاب علي ، أخذ عن الأحنف بن قيس ، وقيس بن عباد ، وغيرهما عن علي . وهكذا رواه أهل الصحيح .

                  والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، وقتل عثمان وهو بالمدينة . كانت أمه أمة لأم سلمة ، فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة ، وكان علي بالكوفة ، والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ، ولا له ذكر .

                  والأثر الذي يروى عن علي أنه دخل إلى جامع البصرة وأخرج القصاص إلا الحسن ، كذب باتفاق أهل المعرفة ، ولكن المعروف أن عليا دخل المسجد ، فوجد قاصا يقص ، فقال : ما اسمك ؟ قال : أبو يحيى . قال : هل [7] تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا . قال : [ ص: 46 ] هلكت وأهلكت ، إنما أنت أبو : اعرفوني [8] ، ثم أخذ بأذنه ، فأخرجه [9] من المسجد .

                  فروى أبو حاتم في كتاب " الناسخ والمنسوخ " [10] : حدثنا الفضل بن دكين [11] ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : انتهى علي إلى قاص وهو يقص ، فقال : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا . قال : هلكت وأهلكت .

                  قال : وحدثنا زهير بن عباد الرواسي ، حدثنا أسد بن حمران [12] ، عن جويبر ، عن الضحاك : أن علي بن أبي طالب دخل مسجد الكوفة ، فإذا قاص يقص ، فقام على رأسه فقال : يا هذا تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا . قال : أفتعرف مدني القرآن من مكيه ؟ قال : لا . قال : هلكت وأهلكت . قال : أتدرون من هذا ؟ هذا يقول : اعرفوني اعرفوني اعرفوني .

                  وقد صنف ابن الجوزي مجلدا في مناقب الحسن البصري [13] ، [ ص: 47 ] وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءا فيمن لقيه من الصحابة [14] . وأخبار الحسن مشهورة في مثل " تاريخ البخاري " . وقد كتبت أسانيد الخرقة ; لأنه كان لنا فيها أسانيد ، فبينتها ليعرف الحق من الباطل .

                  ولهم إسناد آخر [15] بالخرقة المنسوبة إلى جابر ، وهو منقطع جدا .

                  وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة ، ولا يقصون شعورهم ، ولا التابعون ، ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين .

                  وأخبار الحسن مذكورة بالأسانيد الثابتة من كتب كثيرة ، يعلم منها ما ذكرنا . وقد أفرد [16] أبو الفرج بن الجوزي له كتابا في مناقبه وأخباره .

                  وأضعف من هذا نسبة الفتوة إلى علي ، وفي إسنادها من الرجال المجهولين الذين لا يعرف لهم ذكر ما يبين كذبها .

                  وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل ، ولا يسقى ملحا ، ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة ، لكن كانوا قد اجتمع بهم التابعون ، وتعلموا منهم ، وتأدبوا بهم ، واستفادوا منهم ، وتخرجوا على أيديهم ، وصحبوا من صحبوه منهم ، وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة .

                  [ ص: 48 ] وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون عن عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم . وكذلك أصحاب معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره . وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما . وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره .

                  وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله ، وكلهم متفقون على دين واحد ، وطريق واحدة ، وسبيل واحدة ، يعبدون الله ويطيعون الله ورسوله [17] - صلى الله عليه وسلم - ومن بلغهم من الصادقين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا قبلوه ، ومن فهم من القرآن والسنة [18] ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه ، ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه .

                  ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه ربا يستغيث به ، كالإله الذي يسأله ويرغب إليه ، ويعبده ويتوكل عليه ، ويستغيث به حيا وميتا . ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر ، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه .

                  فإن هذا ونحوه دين النصارى الذين قال الله فيهم : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ سورة التوبة : 31 ] .

                  وكانوا متعاونين على البر والتقوى ، لا على الإثم والعدوان ، متواصين بالحق ، متواصين بالصبر .

                  [ ص: 49 ] والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة ، وبمنزلة دليل الحاج ; فالإمام يقتدي به المأمومون فيصلون بصلاته ، لا يصلي عنهم [19] ، وهو يصلي بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها ، فإن عدل عن ذلك سهوا أو عمدا لم يتبعوه .

                  ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم ، فالدليل لا يحج عنهم ، وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه ، وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه اتبع . فالفاصل بينهم الكتاب والسنة .

                  قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) الآية [ سورة النساء : 59 ] .

                  وكل من الصحابة الذين سكنوا الأمصار أخذ عنه الناس الإيمان والدين .

                  وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب لم يأخذوا عن علي شيئا ; فإنه - رضي الله عنه - كان ساكنا بالمدينة ، وأهل المدينة لم يكونوا يحتاجون إليه إلا كما يحتاجون إلى نظرائه ، كعثمان ، في مثل قصة شاورهم [20] فيها عمر ونحو ذلك .

                  ولما ذهب إلى الكوفة ، كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين [ ص: 50 ] عن سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمار ، وأبي موسى ، وغيرهم ممن أرسله عمر إلى الكوفة .

                  وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران بن حصين ، وأبي بكرة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأنس ، وغيرهم من الصحابة .

                  وأهل الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء ، وبلال ، وغيرهم من الصحابة .

                  والعباد والزهاد من أهل هذه البلاد أخذوا الدين عمن شاهدوه من الصحابة . فكيف يجوز أن يقال : إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره ؟

                  وهذه كتب الزهد ، مثل " الزهد " للإمام أحمد ، و " الزهد " لابن المبارك ، ولوكيع بن الجراح ، ولهناد بن السري ، ومثل كتب أخبار الزهاد " كحلية الأولياء " و " صفوة الصفوة " وغير ذلك ، فيها من أخبار الصحابة والتابعين أمور كثيرة ، وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ، ومعاذ وابن مسعود ، وأبي بن كعب وأبي ذر ، وأبي الدرداء وأبي أمامة ، وأمثالهم من الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية