الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " وأما علم الفصاحة فهو منبعه ، حتى [ ص: 51 ] قيل : كلامه فوق [2] كلام المخلوق ودون كلام الخالق ، ومنه تعلم الخطباء " .

                  والجواب : أن يقال : لا ريب أن عليا كان من أخطب الصحابة [3] ، وكان أبو بكر خطيبا ، وعمر خطيبا ، وكان ثابت بن قيس بن شماس خطيبا معروفا بأنه خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة شعراءه .

                  ولكن كان أبو بكر يخطب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حضوره وغيبته ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج في الموسم يدعو الناس إلى الإسلام ، وأبو بكر معه يخطب معه ، ويبين بخطابه ما يدعو الناس إلى متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبي الله ساكت يقره على ما يقول ، وكان كلامه تمهيدا وتوطئة لما يبلغه الرسول ، معونة له ، لا تقدما بين يدي الله ورسوله .

                  كما كان ثابت بن قيس بن شماس يخطب أحيانا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يسمى خطيب رسول الله .

                  وكان عمر من أخطب الناس ، وأبو بكر أخطب منه ، يعترف له عمر بذلك [4] ، وهو الذي خطب المسلمين وكشف لهم عن موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبت الإيمان في قلوب المسلمين ، حتى لا يضطرب الناس ; لعظيم المصيبة التي نزلت بهم .

                  [ ص: 52 ] ولما قدم هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة ، قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام أبو بكر يخاطب [5] الناس عنه ، حتى ظن من لم يعرفهما أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن عرف بعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القاعد .

                  وكان يخرج معه إلى الوفود ، فيخاطب الوفود ، وكان يخاطبهم في مغيبه . ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو الذي خطب الناس . وخطب يوم السقيفة خطبة بليغة ، انتفع بها الحاضرون كلهم ، حتى قال عمر : " كنت قد زورت في نفسي مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبو بكر ، وكان أحلم [6] مني وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها ، أو أفضل منها " [7] .

                  وقال أنس : خطبنا أبو بكر - رضي الله عنه - ونحن كالثعالب ، فما زال يثبتنا حتى صرنا كالأسود .

                  وكان زياد بن أبيه من أخطب الناس وأبلغهم ، حتى قال الشعبي : ما تكلم أحد فأحسن ، إلا تمنيت أن يسكت ; خشية أن يزيد فيسيء ، إلا زيادا ، كان كلما أطال أجاد - أو كما قال . وقد كتب الناس خطب زياد .

                  [ ص: 53 ] وكان معاوية خطيبا ، وكانت عائشة من أخطب الناس ، حتى قال الأحنف بن قيس : سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، فما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أحسن من عائشة .

                  وكان الخطباء الفصحاء كثيرين في العرب قبل الإسلام وبعده ، وجماهير هؤلاء لم يأخذوا عن علي شيئا .

                  فقول القائل : " إنه منبع علم الفصاحة " كذب بين ، ولو لم يكن إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أخطب منه وأفصح ، ولم يأخذ منه شيئا .

                  وليست الفصاحة التشدق في الكلام ، والتقعير في الكلام [8] ، ولا سجع الكلام ، ولا كان في خطبة علي ولا سائر خطباء العرب من الصحابة وغيرهم تكلف الأسجاع ، ولا تكلف التحسين الذي يعود إلى مجرد اللفظ ، الذي يسمى علم البديع ، كما يفعله المتأخرون من أصحاب الخطب والرسائل والشعر .

                  وما يوجد في القرآن من مثل قوله : ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) [ سورة الكهف : 104 ] و ( إن ربهم بهم ) [ سورة العاديات : 11 ] ونحو ذلك ، فلم يتكلف لأجل التجانس ، بل هذا تابع غير مقصود بالقصد الأول ، كما يوجد في القرآن من أوزان الشعر ، ولم يقصد به الشعر .

                  كقوله تعالى : ( وجفان كالجواب وقدور راسيات ) [ سورة سبأ : 13 ] ، [ ص: 54 ] وقوله : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) [ سورة الحجر 49 ] ، ( ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ) [ سورة الشرح : 2 ، 3 ] ونحو ذلك .

                  وإنما البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى : ( وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ) [ سورة النساء : 63 ] ، هي علم المعاني والبيان ، فيذكر [9] من المعاني ما هو أكمل مناسبة للمطلوب ، ويذكر [10] من الألفاظ ما هو أكمل في بيان تلك المعاني .

                  فالبلاغة بلوغ غاية المطلوب ، أو غاية الممكن ، من المعاني بأتم ما يكون من البيان ، فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة ، وبين تبيينها بأحسن وجه . ومن الناس من تكون همته إلى المعاني ، ولا يوفيها حقها من الألفاظ المبينة . ومن الناس من يكون مبينا لما في نفسه [11] من المعاني ، لكن لا تكون تلك المعاني محصلة للمقصود المطلوب في ذلك المقام ، فالمخبر مقصوده تحقيق المخبر به ، فإذا بينه [12] وبين ما يحقق ثبوته ، لم يكن بمنزلة الذي لا يحقق ما يخبر به ، أو لا يبين ما يعلم به ثبوته .

                  والآمر مقصوده تحصيل الحكمة المطلوبة ، فمن أمر ولم يحكم ما أمر به ، أو لم يبين الحكمة في ذلك ، لم يكن بمنزلة الذي أمر بما هو حكمة ، وبين وجه الحكمة فيه .

                  وأما تكلف الأسجاع والأوزان ، والجناس والتطبيق ، ونحو ذلك مما [ ص: 55 ] تكلفه متأخرو الشعراء والخطباء ، والمترسلين والوعاظ ، فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين ، والفصحاء منهم ، ولا كان ذلك مما يهتم به [13] العرب .

                  وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني ، كالمجاهد الذي يزخرف السلاح وهو جبان .

                  ولهذا يوجد الشاعر ، كلما أمعن في المدح والهجو ، خرج في ذلك إلى الإفراط في الكذب ، يستعين بالتخيلات والتمثيلات [14] .

                  وأيضا فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب " نهج البلاغة " كذب على علي ، وعلي - رضي الله عنه - أجل وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام ، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح ، فلا هي صدق ولا هي مدح . ومن قال : إن كلام علي وغيره من البشر فوق كلام المخلوق ، فقد أخطأ . وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق كلامه ، وكلاهما مخلوق .

                  ولكن هذا من جنس كلام ابن سبعين الذي يقول : هذا كلام بشير [15] يشبه بوجه ما كلام البشر ، وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر . وليس هذا من كلام المسلمين .

                  وأيضا فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره ، لكن صاحب " نهج البلاغة " وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس [ ص: 56 ] فجعلوه من كلام علي ، ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به ، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره .

                  ولهذا يوجد في كلام " البيان والتبيين " للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير علي ، وصاحب " نهج البلاغة " يجعله عن علي .

                  وهذه الخطب المنقولة في كتاب " نهج البلاغة " لو كانت كلها عن علي من كلامه ; لكانت موجودة قبل هذا المصنف ، منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها . فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها - بل أكثرها - لا يعرف قبل هذا ، علم أن هذا كذب ، وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ؟ ومن الذي نقله عن علي ؟ وما إسناده ؟ وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد .

                  ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ، ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد ، وتبين صدقها من كذبها ، علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات ، والتمييز بين صدقها وكذبها .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية