( فصل ) 
قال الرافضي [1]  : " وأما علم الفصاحة فهو منبعه ، حتى  [ ص: 51 ] قيل : كلامه فوق [2] كلام المخلوق ودون كلام الخالق ، ومنه تعلم الخطباء "   . 
والجواب : أن يقال : لا ريب أن  عليا  كان من أخطب الصحابة  [3] ، وكان  أبو بكر  خطيبا ،  وعمر  خطيبا ، وكان  ثابت بن قيس بن شماس  خطيبا معروفا بأنه خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان  حسان بن ثابت  ،  وكعب بن مالك  ،  وعبد الله بن رواحة  شعراءه . 
ولكن كان  أبو بكر  يخطب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حضوره وغيبته  ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج في الموسم يدعو الناس إلى الإسلام ،  وأبو بكر  معه يخطب معه ، ويبين بخطابه ما يدعو الناس إلى متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبي الله ساكت يقره على ما يقول ، وكان كلامه تمهيدا وتوطئة لما يبلغه الرسول ، معونة له ، لا تقدما بين يدي الله ورسوله . 
كما كان  ثابت بن قيس بن شماس  يخطب أحيانا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يسمى خطيب رسول الله   . 
وكان  عمر  من أخطب الناس ،  وأبو بكر  أخطب منه ، يعترف له  عمر  بذلك [4] ، وهو الذي خطب المسلمين وكشف لهم عن موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبت الإيمان في قلوب المسلمين ، حتى لا يضطرب الناس ; لعظيم المصيبة التي نزلت بهم . 
 [ ص: 52 ] ولما قدم هو  وأبو بكر  مهاجرين إلى المدينة  ، قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام  أبو بكر  يخاطب [5] الناس عنه ، حتى ظن من لم يعرفهما أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن عرف بعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القاعد . 
وكان يخرج معه إلى الوفود ، فيخاطب الوفود ، وكان يخاطبهم في مغيبه . ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو الذي خطب الناس . وخطب يوم السقيفة خطبة بليغة ، انتفع بها الحاضرون كلهم ، حتى قال  عمر   : " كنت قد زورت في نفسي مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي  أبي بكر  ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال  أبو بكر   : على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم  أبو بكر  ، وكان أحلم [6] مني وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها ، أو أفضل منها  " [7]  . 
وقال  أنس   : خطبنا  أبو بكر   - رضي الله عنه - ونحن كالثعالب ، فما زال يثبتنا حتى صرنا كالأسود  . 
وكان  زياد بن أبيه  من أخطب الناس وأبلغهم ، حتى قال  الشعبي   : ما تكلم أحد فأحسن ، إلا تمنيت أن يسكت ; خشية أن يزيد فيسيء ، إلا زيادا  ، كان كلما أطال أجاد  - أو كما قال . وقد كتب الناس خطب زياد   . 
 [ ص: 53 ] وكان  معاوية  خطيبا ، وكانت  عائشة  من أخطب الناس ، حتى قال  الأحنف بن قيس   : سمعت خطبة  أبي بكر   وعمر   وعثمان   وعلي  ، فما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أحسن من  عائشة   . 
وكان الخطباء الفصحاء كثيرين في العرب قبل الإسلام وبعده ، وجماهير هؤلاء لم يأخذوا عن علي شيئا . 
فقول القائل : " إنه منبع علم الفصاحة " كذب بين ، ولو لم يكن إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أخطب منه وأفصح ، ولم يأخذ منه شيئا . 
وليست الفصاحة التشدق في الكلام ، والتقعير في الكلام [8] ، ولا سجع الكلام ، ولا كان في خطبة  علي  ولا سائر خطباء العرب من الصحابة وغيرهم تكلف الأسجاع ، ولا تكلف التحسين الذي يعود إلى مجرد اللفظ ، الذي يسمى علم البديع ، كما يفعله المتأخرون من أصحاب الخطب والرسائل والشعر . 
وما يوجد في القرآن من مثل قوله : ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا   ) [ سورة الكهف : 104 ] و ( إن ربهم بهم   ) [ سورة العاديات : 11 ] ونحو ذلك ، فلم يتكلف لأجل التجانس ، بل هذا تابع غير مقصود بالقصد الأول ، كما يوجد في القرآن من أوزان الشعر ، ولم يقصد به الشعر . 
كقوله تعالى : ( وجفان كالجواب وقدور راسيات   ) [ سورة سبأ : 13 ] ،  [ ص: 54 ] وقوله : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم   ) [ سورة الحجر 49 ] ، ( ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك   ) [ سورة الشرح : 2 ، 3 ] ونحو ذلك . 
وإنما البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى : ( وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا    ) [ سورة النساء : 63 ] ، هي علم المعاني والبيان ، فيذكر [9] من المعاني ما هو أكمل مناسبة للمطلوب ، ويذكر [10] من الألفاظ ما هو أكمل في بيان تلك المعاني . 
فالبلاغة بلوغ غاية المطلوب ، أو غاية الممكن ، من المعاني بأتم ما يكون من البيان ، فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة ، وبين تبيينها بأحسن وجه . ومن الناس من تكون همته إلى المعاني ، ولا يوفيها حقها من الألفاظ المبينة . ومن الناس من يكون مبينا لما في نفسه [11] من المعاني ، لكن لا تكون تلك المعاني محصلة للمقصود المطلوب في ذلك المقام ، فالمخبر مقصوده تحقيق المخبر به ، فإذا بينه [12] وبين ما يحقق ثبوته ، لم يكن بمنزلة الذي لا يحقق ما يخبر به ، أو لا يبين ما يعلم به ثبوته . 
والآمر مقصوده تحصيل الحكمة المطلوبة ، فمن أمر ولم يحكم ما أمر به ، أو لم يبين الحكمة في ذلك ، لم يكن بمنزلة الذي أمر بما هو حكمة ، وبين وجه الحكمة فيه . 
وأما تكلف الأسجاع والأوزان ، والجناس والتطبيق ، ونحو ذلك مما  [ ص: 55 ] تكلفه متأخرو الشعراء والخطباء ، والمترسلين والوعاظ ، فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين ، والفصحاء منهم ، ولا كان ذلك مما يهتم به [13] العرب . 
وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني ، كالمجاهد الذي يزخرف السلاح وهو جبان . 
ولهذا يوجد الشاعر ، كلما أمعن في المدح والهجو ، خرج في ذلك إلى الإفراط في الكذب ، يستعين بالتخيلات والتمثيلات [14]  . 
وأيضا فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب " نهج البلاغة " كذب على  علي  ،  وعلي   - رضي الله عنه - أجل وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام  ، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح ، فلا هي صدق ولا هي مدح . ومن قال : إن كلام  علي  وغيره من البشر فوق كلام المخلوق ، فقد أخطأ . وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق كلامه ، وكلاهما مخلوق . 
ولكن هذا من جنس كلام ابن سبعين  الذي يقول : هذا كلام بشير [15] يشبه بوجه ما كلام البشر ، وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر . وليس هذا من كلام المسلمين . 
وأيضا فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام  علي  موجودة في كلام غيره ، لكن صاحب " نهج البلاغة " وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس  [ ص: 56 ] فجعلوه من كلام  علي  ، ومنه ما يحكى عن  علي  أنه تكلم به ، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره . 
ولهذا يوجد في كلام " البيان والتبيين " للجاحظ  وغيره من الكتب كلام منقول عن غير  علي  ، وصاحب " نهج البلاغة " يجعله عن  علي   . 
وهذه الخطب المنقولة في كتاب " نهج البلاغة " لو كانت كلها عن  علي  من كلامه ; لكانت موجودة قبل هذا المصنف ، منقولة عن  علي  بالأسانيد وبغيرها . فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها - بل أكثرها - لا يعرف قبل هذا ، علم أن هذا كذب ، وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ؟ ومن الذي نقله عن  علي  ؟ وما إسناده ؟ وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد . 
ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ، ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد ، وتبين صدقها من كذبها ، علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن  علي  من أبعد الناس عن المنقولات ، والتمييز بين صدقها وكذبها . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					