الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 273 ] وأما قول الرافضي : " ومن شأن الإمام تكميل الرعية ، فكيف يطلب منهم التكميل ؟ "

                  عنه أجوبة : أحدها : أنا [1] لا نسلم أن الإمام يكملهم وهم لا يكملونه أيضا [2] ، بل الإمام والرعية يتعاونون على البر والتقوى ، لا على الإثم والعدوان ، بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج ، والدين قد عرف بالرسول ، فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به ، ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات ، فإن كان الحق فيها بينا أمر به ، وإن كان متبينا للإمام دونهم بينه لهم ، وكان عليهم أن يطيعوه ، وإن كان مشتبها عليهم اشتوروا فيه حتى يتبين لهم ، وإن تبين لأحد من الرعية دون الإمام بينه له ، وإن اختلف الاجتهاد ، فالإمام هو المتبع في اجتهاده ، إذ لا بد من الترجيح ، والعكس ممتنع .

                  وهذا كما تقوله الرافضة الإمامية في نواب المعصوم ; فإنه وإن تبين لهم الكليات فلا بد في تبيين الجزئيات من الاجتهاد ، وحينئذ فكل إمام هو نائب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ريب في عصمته ، ونوابه أحق بالاتباع من نواب غيره ، والمراد بكونهم نوابه أن عليهم أن يقوموا بما قام به ، ليس المراد استخلافهم ، فإن طاعة الرسول واجبة على كل متول ، سواء ولاه [3] الرسول أو غيره ، وطاعته بعد موته كطاعته في [ ص: 274 ] حياته ، ولو ولى هو رجلا لوجب عليه وعلى غيره ما يجب على غيره من الولاة .

                  الوجه الثاني : أن كلا من المخلوقين قد استكمل بالآخر ، كالمتناظرين في العلم ، والمتشاورين في الرأي ، والمتعاونين المتشاركين في مصلحة دينهما ودنياهما . وإنما يمتنع هذا في الخالق سبحانه ; لأنه لا بد أن يكون للممكنات المحدثات فاعل مستغن بنفسه ، غير محتاج إلى أحد ; لئلا يفضي إلى الدور في المؤثرات والتسلسل فيها ، وأما المخلوقان فكلاهما يستفيد حوله وقوته من الله تعالى ، لا من نفسه ولا من الآخر ، فلا دور في ذلك .

                  الوجه الثالث : أنه ما زال المتعلمون ينبهون معلمهم على أشياء ، ويستفيدها المعلم منهم ، مع أن عامة ما عند المتعلم من الأصول تلقاها من معلمه . وكذلك في الصناع وغيرهم .

                  الوجه الرابع : أن موسى - صلى الله عليه وسلم - قد استفاد من الخضر ثلاث مسائل ، وهو أفضل منه . وقد قال الهدهد لسليمان : ( أحطت بما لم تحط به ) [ سورة النمل : 22 ] وليس الهدهد قريبا من سليمان .

                  ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يشاور أصحابه ، وكان أحيانا يرجع إليهم في الرأي . كما [4] قال له الحباب يوم بدر : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل : أهو منزل أنزلكه الله تعالى فليس لنا أن نتعداه ، أم هو الحرب [ ص: 275 ] والرأي والمكيدة ؟ فقال : " بل [5] هو الحرب والرأي والمكيدة " فقال : ليس هذا بمنزل قتال . [ قال : ] [6] فرجع إلى رأي الحباب [7] .

                  وكذلك يوم الخندق ، كان قد رأى أن يصالح غطفان على نصف تمر المدينة ، وينصرف عن القتال . فجاءه سعد [8] فقال : يا رسول الله ، إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة ، أو كما قال ، وإن كنت أنت إنما فعلت هذا لمصلحتنا ، فلقد كانوا في الجاهلية وما ينالون منها تمرة [9] إلا بشراء أو كراء ، فلما أعزنا الله بالإسلام نعطيهم تمرنا [10] ، ما نعطيهم إلا السيف ، أو كما قال . فقبل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك [11] .

                  وعمر أشار عليه لما أذن لهم في غزوة تبوك في نحر الركاب أن يجمع أزوادهم ويدعو فيها بالبركة ، فقبل منه [12] .

                  وأشار عليه بأن يرد أبا هريرة لما أرسله بنعليه يبشر من لقيه وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله بالجنة ، لما خاف أن يتكلوا ، فقبل منه [13] .

                  [ ص: 276 ] وأبو بكر لم يكن يرجع إليهم فيما ليس فيه [14] نص من الله ورسوله ، بل كان إذا تبين له ذلك لم يبال بمن خالفه . ألا ترى أنه لما نازعه [ عمر ] [15] في قتال أهل الردة لأجل الخوف على المسلمين ، ونازعوه في قتال مانعي الزكاة ، ونازعوه في إرسال جيش أسامة - لم يرجع إليهم ، بل بين لهم دلالة النص على ما فعله .

                  وأما في الأمور الجزئية التي لا يجب أن تكون منصوصة ، بل يقصد بها المصلحة ، فهذه ليس هو فيها بأعظم من الأنبياء .

                  الخامس : أن هذا الكلام من أبي بكر ما زاده عند الأمة إلا شرفا وتعظيما ، ولم تعظم الأمة أحدا بعد نبيها كما عظمت الصديق ، ولا أطاعت أحدا كما أطاعته ، من غير رغبة أعطاهم إياها ، ولا رهبة أخافهم بها ، بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعا ، مقرين بفضيلته واستحقاقه . ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم [ إلا ] [16] وأزال الاختلاف ببيانه لهم ، ومراجعتهم له . وهذا أمر لا يشركه فيه غيره .

                  وكان عمر أقرب إليه في ذلك ، ثم عثمان .

                  وأما علي فقاتلهم وقاتلوه [17] ، فلا قومهم ولا قوموه ، فأي الإمامين حصل به مقصود الإمامة أكثر ؟ وأي الإمامين أقام الدين ورد المرتدين ، [ ص: 277 ] وقاتل الكافرين ، واتفقت عليه الكلمة : [18] كلمة المؤمنين ؟ هل يشبه هذا بهذا إلا من هو في غاية النقص من العقل والدين ؟ !

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية