فصل
قال الرافضي [1] : " الثالث : قصورهم في العلم والتجاؤهم في أكثر الأحكام إلى علي [2] " .
[ ص: 279 ] والجواب : أن هذا من أعظم البهتان . أما أبو بكر : فما عرف أنه استفاد من علي شيئا أصلا . وعلي قد روى عنه واحتذى حذوه واقتدى بسيرته . وأما عمر : فقد ( * استفاد علي منه أكثر مما استفاد عمر منه . وأما عثمان : فقد كان أقل علما من أبي بكر وعمر ، ومع هذا فما كان * ) [3] يحتاج إلى علي ، حتى أن بعض الناس شكا إلى علي بعض سعاة عمال عثمان ، فأرسل إليه بكتاب الصدقة ، فقال عثمان [4] : لا حاجة لنا به .
وصدق عثمان ، وهذه فرائض الصدقة ونصبها التي لا تعلم إلا بالتوقيف [5] فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي من أربع طرق : أصحها عند علماء المسلمين كتاب أبي بكر ( * الذي كتبه لأنس بن مالك ، وهذا هو الذي رواه البخاري [6] ، وعمل به أكثر الأئمة . وبعده كتاب * ) [7] عمر [8] .
وأما الكتاب المنقول عن علي ففيه أشياء لم يأخذ بها أحد من [ ص: 280 ] العلماء ، مثل قوله : " في خمس وعشرين خمس [9] شاة " ; فإن هذا خلاف النصوص المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم ; ولهذا كان ما روي عن علي : إما منسوخ ، وإما خطأ في النقل .
والرابع : كتاب عمرو بن حزم ، كان قد كتبه لما بعثه إلى نجران . وكتاب أبي بكر هو آخر الكتب ، فكيف يقول عاقل : إنهم كانوا يلجئون إليه في أكثر الأحكام ، وقضاته لم يكونوا يلتجئون إليه ، بل كان شريح [ القاضي ] [10] وعبيدة السلماني ونحوهما من القضاة الذين كانوا في زمن علي يقضون بما تعلموه [11] من [ غير ] [12] علي ، وكان شريح قد تعلم من معاذ بن جبل وغيره من الصحابة ، وعبيدة تعلم من عمر وغيره ، وكانوا لا يشاورونه في عامة ما يقضون به ; استغناء بما عندهم من العلم ، فكيف يقال : إن عمر وعثمان كانا يلتجئان إليه في أكثر الأحكام .
وقد قال علي : كان رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن ، والآن قد رأيت أن يبعن . فقال له عبيدة السلماني : رأيك مع عمر في الجماعة [13] أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة .
[ ص: 281 ] فهذا قاضيه لا يرجع إلى رأيه في هذه المسألة [14] ، مع أن أكثر الناس إنما منع بيعها تقليدا لعمر ، ليس فيها نص صريح صحيح . فإذا كانوا لا يلتجئون إليه في هذه المسألة ، فكيف يلتجئون إليه في غيرها ، وفيها من النصوص ما يشفي ويكفي ؟ !
وإنما كان يقضي ولا يشاور عليا ، وربما قضى بقضية أنكرها علي لمخالفتها قول جمهور الصحابة ، كابني عم [15] وأخوين [16] أحدهما أخ لأم قضى له بالمال ، فأنكر ذلك علي ، وقال : بل يعطى السدس ، ويشتركان [17] في الباقي . وهذا قول سائر الصحابة : زيد وغيره ، فلم يكن الناس مقلدين في ذلك أحدا .
وقول علي في الجد لم يقل به أحد من العلماء ، إلا ابن أبي ليلى . وأما قول ابن مسعود فقال به أصحابه ، وهم أهل الكوفة ، وقول زيد قال به خلق كثير ، وأما قول الصديق فقال به جمهور الصحابة .
وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي كتابا كبيرا فيما لم يأخذ به المسلمون من قول علي ; لكون قول غيره من الصحابة أتبع للكتاب والسنة ، وكان المرجوح من قوله أكثر من المرجوح من قول أبي بكر وعمر وعثمان ، والراجح من أقاويلهم أكثر ، فكيف أنهم كانوا يلتجئون إليه في أكثر الأحكام ؟ !


