الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي : [1] " الرابع عشر : أن عثمان فعل أمورا لا يجوز فعلها ، حتى أنكر عليه المسلمون كافة ، واجتمعوا على قتله أكثر من اجتماعهم على إمامته وإمامة صاحبيه " .

                  [ ص: 313 ] والجواب من وجوه : أحدها أن هذا من أظهر الكذب ، فإن الناس كلهم بايعوا عثمان في المدينة وفي جميع الأمصار ، لم يختلف في إمامته [2] اثنان ، ولا تخلف عنها أحد ، ولهذا قال الإمام أحمد وغيره : إنها كانت أوكد من غيرها [3] باتفاقهم عليها .

                  وأما الذين قتلوه فنفر قليل ، قال ابن الزبير : يعيب قتلة عثمان : " خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية ، فقتلهم الله كل قتلة ، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب " يعني هربوا ليلا .

                  ومعلوم بالتواتر أن أهل الأمصار لم يشهدوا قتله فلم يقتله بقدر من بايعه ، وأكثر أهل المدينة لم يقتلوه ، ولا أحد من السابقين الأولين دخل في قتله كما دخلوا في بيعته ، بل الذين قتلوه أقل من عشر معشار من بايعه ، فكيف يقال إن اجتماعهم على قتله كان أكثر من اجتماعهم على بيعته ؟ ! لا يقول هذا إلا من هو من أجهل الناس بأحوالهم ، وأعظمهم تعمدا للكذب عليهم .

                  الثاني : أن يقال : الذين أنكروا على علي وقاتلوه أكثر بكثير من الذين أنكروا على عثمان وقتلوه ، فإن عليا قاتله بقدر الذين قتلوا عثمان أضعافا مضاعفة وقطعه كثير من عسكره : خرجوا عليه وكفروه ، وقالوا : أنت ارتددت عن الإسلام ، لا نرجع إلى طاعتك حتى تعود إلى الإسلام .

                  [ ص: 314 ] ثم إن واحدا من هؤلاء قتله قتل مستحل لقتله متقرب إلى الله بقتله معتقدا فيه أقبح مما اعتقده قتلة عثمان فيه .

                  فإن الذين خرجوا على عثمان لم يكونوا مظهرين لكفره ، وإنما كانوا يدعون الظلم وأما الخوارج فكانوا [4] يجهرون بكفر علي ، وهم أكثر من السرية التي قدمت المدينة لحصار عثمان حتى قتل .

                  فإن كان هذا حجة في القدح في عثمان كان ذلك حجة في القدح في علي بطريق الأولى ، والتحقيق أن كليهما [5] حجة باطلة ، لكن القادح في عثمان بمن قتله أدحض حجة من القادح في علي بمن قاتله ، فإن المخالفين لعلي المقاتلين له كانوا أضعاف المقاتلين لعثمان ، بل الذين قاتلوا عليا كانوا أفضل باتفاق المسلمين من الذين حاصروا عثمان وقتلوه ، وكان في المقاتلين [6] لعلي أهل زهد وعبادة ، ولم يكن قتلة عثمان لا في الديانة ولا في إظهار تكفيره مثلهم ، ومع هذا فعلي خليفة راشد والذين استحلوا دمه ظالمون معتدون فعثمان أولى بذلك من علي .

                  الثالث : أن يقال : قد علم بالتواتر أن المسلمين كلهم اتفقوا على مبايعة عثمان لم يتخلف عن بيعته أحد مع أن بيعة الصديق تخلف عنها سعد بن عبادة ، ومات ولم يبايعه ولا بايع عمر ، ومات في خلافة [ ص: 315 ] عمر ، ولم يكن تخلف سعد عنها قادحا فيها ، لأن سعدا لم يقدح في الصديق ولا في أنه أفضل المهاجرين ، بل كان هذا معلوما عندهم ، لكن طلب أن يكون من الأنصار أمير .

                  وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الأئمة من قريش " [7] فكان ما ظنه سعد خطأ مخالفا للنص المعلوم ، فعلم أن تخلفه خطأ بالنص ، ( 2 وإذا علم الخطأ بالنص 2 ) [8] لم يحتج فيه إلى الإجماع .

                  وأما بيعة عثمان فلم يتخلف عنها أحد مع كثرة المسلمين وانتشارهم من إفريقية إلى خراسان ، ومن سواحل الشام إلى أقصى اليمن ، ومع كونهم كانوا ظاهرين على عدوهم من المشركين وأهل الكتاب يقاتلونهم ، وهي في زيادة فتح وانتصار ، ودوام دولة ، ودوام المسلمين على مبايعته والرضا عنه ست سنين نصف خلافته ، معظمين له مادحين له ، لا يظهر من أحد منهم التكلم فيه بسوء .

                  ثم بعد هذا صار يتكلم فيه بعضهم ، وجمهورهم لا يتكلم فيه إلا بخير وكانت قد طالت عليهم إمارته ، فإنه بقي اثنتي عشرة سنة لم تدم خلافة أحد من الأربعة ما دامت خلافته ، فإن خلافة الصديق كانت سنتين وبعض الثالثة ، وخلافة عمر عشر سنين وبعض الأخرى ، وخلافة علي أربع سنين وبعض الخامسة ، ونشأ في خلافته من دخل في الإسلام [ ص: 316 ] كرها فكان منافقا مثل ابن سبأ وأمثاله ، وهم الذين سعوا في الفتنة بقتله .

                  وفي المؤمنين من يسمع المنافقين كما قال تعالى : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ) [ سورة التوبة : 47 ] أي : وفيكم من يسمع [9] منهم فيستجيب لهم ، ويقبل منهم لأنهم يلبسون عليه .

                  وهكذا فعل أولئك المنافقون : لبسوا على بعض من كان عندهم يحب عثمان ويبغض من كان يبغضه حتى تقاعد بعض الناس عن نصره .

                  وكان الذين اجتمعوا على قتله عامتهم من أوباش القبائل ممن لا يعرف له في الإسلام ذكر بخير ولولا الفتنة لما ذكروا .

                  وأما علي فمن حين تولى تخلف عن بيعته قريب من نصف المسلمين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، ممن قعد عنه فلم يقاتل معه ، ولا قاتله مثل أسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة ومنهم من قاتله [10] .

                  ثم كثير من الذين بايعوه رجعوا عنه منهم من كفره واستحل دمه ، ومنهم من ذهب إلى معاوية كعقيل أخيه وأمثاله .

                  [ ص: 317 ] ولم تزل شيعة عثمان القادحين في علي تحتج بهذا على أن عليا لم يكن خليفة راشدا وما كانت [11] حجتهم أعظم من حجة الرافضة ، فإذا [12] كانت حجتهم داحضة وعلي قتل مظلوما فعثمان أولى بذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية