[ ص: 133 ] الوجه الخامس من النقل ما جاء منه في : ذم الرأي المذموم
وهو المبني على غير أس ، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة ، لكنه وجه تشريعي ، فصار نوعا من الابتداع ، بل هو الجنس فيها; فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل ، ولذلك وصف بوصف الضلال .
ففي الصحيح ، عن ; قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : عبد الله بن عمرو بن العاص . إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال ، يستفتون ، فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون
فإذا كان كذلك ، فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة .
وخرج وغيره ، عن ابن المبارك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عوف بن مالك الأشجعي تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم ، يحرمون به ما أحل الله ، ويحلون به ما حرم .
قال : " هذا هو القياس على غير أصل ، والكلام في الدين بالتخرص والظن ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : " يحلون الحرام ويحرمون الحلال " ؟ ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله ، والحرام ما كان في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه ، فمن جهل [ ص: 134 ] ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم ، وقاس برأيه ما خرج ( منه ) عن السنة ، فهذا الذي قاس برأيه فضل وأضل ، ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها; فلم يقل برأيه " . ابن عبد البر
وخرج حديثا : " ابن المبارك إن من أشراط الساعة ثلاثا ، وإحداهن : " أن يلتمس العلم عند الأصاغر " .
قيل : من الأصاغر ؟ قال : " الذين يقولون برأيهم ، فأما صغير يروي عن كبير; فليس بصغير " . لابن المبارك
وخرج ابن وهب عن رضي الله عنه : أنه قال : " أصبح أهل الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها ، وتفلتت منهم " . عمر بن الخطاب
قال : " يعني : البدع " . سحنون
[ ص: 135 ] وفي رواية : " إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي ، فضلوا وأضلوا " .
وفي رواية لـ ابن وهب : " إن أصحاب الرأي أعداء السنة ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا : لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياكم " .
قال : " أهل الرأي هم أهل البدع " . أبو بكر بن أبي داود
وعن رضي الله عنه قال : " من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل " . ابن عباس
وعن رضي الله عنه : " قراؤكم يذهبون ، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم " . ابن مسعود
وخرج ابن وهب وغيره عن : أنه قال : " السنة ما سنه الله ورسوله ، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة " . عمر بن الخطاب
وخرج أيضا عن عن أبيه ، قال : " لم يزل أمر هشام بن عروة بني إسرائيل مستقيما حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي ، فأضلوا بني إسرائيل " .
وعن : " إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس " . الشعبي
وعن الحسن : " إنما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار ، وقالوا في الدين برأيهم ، فضلوا [ ص: 136 ] وأضلوا .
وعن دراج بن السمح قال : " يأتي على الناس زمان; يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما ، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضا ، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن " .
وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار :
فقد قالت طائفة : المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن ، لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام ، لأنهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وفي رد ظواهر القرآن; لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل ، كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالمحتملات ، ونفي عذاب القبر ، ونفي الميزان والصراط . وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والحوض إلى أشياء يطول ذكرها وهي مذكورة في كتب الكلام .
وقالت طائفة : إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع ، وما كان مثله من ضروب البدع ، فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي ، وخروج عن الشرع .
وهذا هو القول الأظهر ، إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعا دون نوع ، بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة ، حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة ، كانت من الأصول أو الفروع ، كما قاله القاضي إسماعيل في قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ; بعدما حكى أنها نزلت في الخوارج .
[ ص: 137 ] وكأن القائل بالتخصيص والله أعلم لم يقل به بالقصد الأول ، بل أتى بمثال مما تتضمنه الآية ، كالمثال المذكور; فإنه موافق لما كان مشتهرا في ذلك الزمان ، فهو أول ما يمثل به ، ويبقى ما عداه مسكوتا عن ذكره عند القائل به ، ولو سئل عن العموم لقال به .
وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع إنما تحصل على التفسير بحسب الحاجة ، ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما أنزلت في قصة نصارى نجران ، ثم نزلت على الخوارج حسبما تقدم إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير ، إنما يحملونه على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغة .
وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين ، وهو الأولى لمناصبهم في العلم ، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة .
ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع .
وقالت طائفة وهم فيما زعم جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ، ورد الفروع والنوازل بعضها إلى بعض قياسا دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، وفرعت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن . ابن عبد البر
قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه : تعطيل السنن ، والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه .
[ ص: 138 ] واحتجوا على ذلك بأشياء ، منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن ، وما جاء من النهي عن الأغلوطات ، وهي صعاب المسائل ، وعن كثرة السؤال ، وأنه كره المسائل وعابها ، وإن كثيرا من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل .
وهذا القول غير مخالف لما قبله ، لأن من قال به; قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم ، لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم ، وهو ترك النظر في السنن اقتصارا على الرأي .
وإذا كان كذلك; اجتمع مع ما قبله ، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيه; منع ما حواليه ، وما دار به ورتع حول حماه ، ألا ترى إلى قوله عليه السلام : ، وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع ، وهو منع الجائز; لأنه يجر إلى غير الجائز ، وبحسب عظم المفسدة في الممنوع يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته . الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة
وما تقدم من الأدلة يبين لك عظم المفسدة في الابتداع ، فالحوم حول حماه يتسع جدا ، ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة ، فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة ، وحكوا في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال :
لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق [ ص: 139 ] هاهنا وهاهنا .
وصح نهيه عليه السلام عن كثرة السؤال .
وقال : . إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها
وأحال بها جماعة على الأمراء ، فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ، ويسمونها : صوافي الأمراء .
وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة ، وأنه رأي ليس بعلم : كما قال رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : " أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان " ، ثم أجاب . أبو بكر الصديق
وجاء رجل إلى ، فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه ، فأجابه ، فكتب الرجل ، فقال رجل من جلساء سعيد بن المسيب سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل : " ناولنيها " ، فناوله [ ص: 140 ] الصحيفة ، فخرقها .
وسئل عن شيء ؟ فأجاب ، فلما ولى الرجل; دعاه ، فقال له : " لا تقل : إن القاسم بن محمد القاسم زعم أن هذا هو الحق ، ولكن إن اضطررت إليه عملت به " .
وقال : " قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي ، فإنه متى اتبع الرأي; جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا لا يتم " . مالك بن أنس
ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ، ولكن كثيرا ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : ( إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ) .
ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه ، لم يزل يذمه ويذم من تعمق فيه ، فقد كان ينحى على أهل العراق ، لكثرة تصرفهم به في الأحكام ، فحكي عنه في ذلك أشياء ، من أخفها قوله :
" الاستحسان تسعة أعشار العلم ، ولا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة " .
والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد ، فهذه كلها تشديدات في الرأي ، وإن كان جاريا على الأصول ، حذرا من الوقوع في الرأي غير الجاري على أصل .
هنا كلام كثير كرهنا الإتيان به . ولابن عبد البر
[ ص: 141 ] والحاصل من جميع ما تقدم : أن الرأي المذموم ما بني على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه ، وما كان منه ذريعة إليه ، وإن كان في أصله محمودا ، وذلك راجع إلى أصل شرعي :
فالأول : داخل تحت حد البدعة ، وتتنزل عليه أدلة الذم .
والثاني : خارج عنه ، ولا يكون بدعة أبدا .