الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قالت : وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب ، فقال له : أيها الملك ! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، يأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا نبيا ورسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم ، والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج من استطاع إليه سبيلا قالت : فعدد عليه أمور الإسلام ، فصدقناه ، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ، فعبدنا الله وحده ، [ ص: 260 ] ولم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك .

قالت : فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم ، فقال له النجاشي : فاقرأ علي ، فقرأ عليه صدرا من " كهيعص " قالت : فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ، ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقوا ! فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد .

قالت أم سلمة : فلما خرجنا من عنده ، قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدا فأعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم ، قالت : فقال له عبد الله بن أبي ربيعة ، وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا ، قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد ، قالت : ثم غدا عليه من الغد ، فقال له : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما ، فأرسل إليهم فاسألهم عما [ ص: 261 ] يقولون فيه ، قالت : فأرسل إليهم ليسألهم عنه ، قالت : ولم ينزل بنا مثله . فاجتمع القوم ، فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ، قالوا : نقول فيه ما قال الله عز وجل ، وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى ابن مريم ؟

فقال له جعفر : نقول فيه الذي جاء به نبينا ، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، فضرب النجاشي يده إلى الأرض ، فأخذ عودا ، ثم قال : ما عدا عيسى ابن مريم ، ما قلت هذه العود ، فتناخرت البطارقة حوله حين قال ما قال ، فقال : وإن نخرتم ، وإن نخرتم والله ، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم : الآمنون - من سيمكم غنم ومن سبكم غرم ، ما أحب أن لي ديرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم - والدير : بلسان الحبشة الجبل .

ردوا عليهما هداياهما ولا حاجة لي بهما ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه . قالت : فخرجا من عنده مقبوحين ، مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار
.

التالي السابق


الخدمات العلمية