الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال في التوراة في السفر الخامس : أقبل الله من سيناء ، وتجلى من ساعير ، وظهر من جبال فاران ، ومعه ربوات الأطهار عن يمينه ، وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة : نبوة موسى ، ونبوة عيسى ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

فمجيئه من سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى ونبأه عليه إخبار عن نبوته .

وتجليه من ساعير هو مظهر عيسى المسيح من بيت المقدس ، وساعير : قرية معروفة هناك إلى اليوم ، وهذه بشارة بنبوة المسيح .

وفاران : هي مكة ، وشبه سبحانه وتعالى نبوة موسى بمجيء الصبح ، وفلقه ، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ، ونبوة خاتم النبيين بعدهما صلى الله عليه وسلم باستعلان الشمس [ ص: 320 ] وظهورها وظهور ضوئها في الآفاق ، ووقع الأمر كما أخبر به سواء ، فإن الله صدع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته ، وزاد الضياء والإشراق بنبوة المسيح ، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة التين والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين

فذكر أمكنة هؤلاء الأنبياء وأرضهم التي خرجوا منها ، والتين والزيتون : المراد به منبتهما وأرضهما ، وهي الأرض المقدسة التي هي مظهر المسيح ، وطور سينين الجبل الذي كلم الله عليه موسى فهو مظهر نبوته ، و وهذا البلد الأمين : مكة ، حرم الله وأمنه التي هي مظهر نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .

فهذه الثلاثة نظير تلك الثلاثة سواء .

قالت اليهود : فاران هي أرض الشام وليست أرض الحجاز ، وليس هذا ببدع من بهتهم وتحريفهم ، وعندهم في التوراة : أن إسماعيل لما فارق أباه سكن في برية فاران ، هكذا نطقت التوراة ولفظها ( وأقام إسماعيل في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر ) .

ولا يشك علماء أهل الكتاب أن فاران مسكن لآل إسماعيل ، فقد تضمنت التوراة نبوة تنزل بأرض فاران ، وتضمنت نبوة تنزل على عظيم من ولد إسماعيل ، وتضمنت انتشار أمته وأتباعه حتى يملئوا السهل والجبل ، كما سنذكره إن شاء الله .

ولم يبق بعد هذا شبهة أصلا أن هذه هي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي نزلت بفاران على أشرف ولد إسماعيل حتى ملأ الأرض ضياء ونورا ، وملأ أتباعه السهل والجبل ، [ ص: 321 ] ولا يكثر على الشعب الذي نطقت التوراة بأنهم عادمو الرأي والفطانة أن ينقسموا إلى جاهل بذلك وجاحد مكابر معاند .

ولفظ التوراة فيهم : أنهم الشعب عادم الرأي ، وليس فيهم فطانة .

ويقال لهؤلاء المكابرين : أي نبوة خرجت من الشام فاستعلنت استعلان ضياء الشمس ، وظهرت فوق ظهور النبوتين قبلها ؟ ! وهل هذا إلا بمنزلة مكابرة من يرى الشمس قد طلعت من المشرق فيغالط ويكابر ويقول بل طلعت من المغرب ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية