فصل  
قال صاحب " المنازل " :  
الإخلاص : تصفية العمل من كل شوب .  
أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس إما طلب التزين في قلوب الخلق ، وإما طلب مدحهم ، والهرب من ذمهم ، أو طلب تعظيمهم ، أو طلب أموالهم أو خدمتهم ومحبتهم وقضائهم حوائجه ، أو غير ذلك من العلل والشوائب ، التي عقد متفرقاتها هو إرادة ما سوى الله بعمله ، كائنا ما كان .  
قال : وهو على ثلاث  درجات      . الدرجة الأولى : إخراج رؤية العمل عن العمل ، والخلاص من طلب العوض على العمل ، والنزول عن الرضا بالعمل .  
يعرض للعامل في عمله ثلاث آفات : رؤيته وملاحظته ، وطلب العوض عليه ، ورضاه به وسكونه إليه .  
ففي هذه الدرجة يتخلص من هذه البلية . فالذي يخلصه من رؤية عمله مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه له ، وأنه بالله لا بنفسه ، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو ، كما قال تعالى : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين      ) .  
فهنا ينفعه شهود الجبر ، وأنه آلة محضة ، وأن فعله كحركات الأشجار ، وهبوب الرياح ، وأن المحرك له غيره ، والفاعل فيه سواه ، وأنه ميت - والميت لا يفعل شيئا - وأنه لو خلي ونفسه لم يكن من فعله الصالح شيء البتة . فإن النفس جاهلة ظالمة ، طبعها الكسل ، وإيثار الشهوات والبطالة . وهي منبع كل شر ، ومأوى كل سوء . وما كان هكذا لم يصدر منه خير ، ولا هو من شأنه .  
فالخير الذي يصدر منها إنما هو من الله وبه . لا من العبد ، ولا به . كما قال تعالى : (  ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء      ) ، وقال أهل الجنة : (  الحمد لله الذي هدانا لهذا      ) ، وقال تبارك وتعالى لرسوله      [ ص: 94 ] صلى الله عليه وسلم : (  ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا      ) . وقال تعالى : (  ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم      ) الآية .  
فكل خير في العبد فهو مجرد فضل الله ومنته ، وإحسانه ونعمته . وهو المحمود عليه . فرؤية العبد لأعماله في الحقيقة ، كرؤيته لصفاته الخلقية : من سمعه وبصره ، وإدراكه وقوته ، بل من صحته ، وسلامة أعضائه ، ونحو ذلك . فالكل مجرد عطاء الله ونعمته وفضله .  
فالذي يخلص العبد من هذه الآفة : معرفة ربه ، ومعرفة نفسه .  
والذي يخلصه من طلب العوض على العمل : علمه بأنه عبد محض . والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرة ؛ إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته . فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه ، وإحسان إليه ، وإنعام عليه ، لا معارضة ؛ إذ الأجرة إنما يستحقها الحر ، أو عبد الغير . فأما عبد نفسه فلا .  
والذي يخلصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران :  
أحدهما : مطالعة عيوبه وآفاته ، وتقصيره فيه ، وما فيه من حظ النفس ، ونصيب الشيطان . فقل عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب ، وإن قل . وللنفس فيه حظ .  
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته ؟ فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد     .  
فإذا كان هذا التفات طرفه أو لحظه ؛ فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله ؟ هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية .  
وقال   ابن مسعود :  لا يجعل أحدكم للشيطان حظا من صلاته ، يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه     . فجعل هذا القدر اليسير النزر حظا ونصيبا للشيطان من صلاة العبد . فما الظن بما فوقه ؟  
 [ ص: 95 ] وأما حظ النفس من العمل فلا يعرفه إلا أهل البصائر الصادقون .  
الثاني : علمه بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودية ، وآدابها الظاهرة والباطنة ، وشروطها ، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقا ، وأن يرضى بها لربه . فالعارف لا يرضى بشيء من عمله لربه ، ولا يرضى نفسه لله طرفة عين . ويستحيي من مقابلة الله بعمله .  
فسوء ظنه بنفسه وعمله وبغضه لها ، وكراهته لأنفاسه وصعودها إلى الله يحول بينه وبين الرضا بعمله ، والرضا عن نفسه .  
وكان بعض السلف يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة ، ثم يقبض على لحيته ويهزها . ويقول لنفسه : يا مأوى كل سوء ، وهل رضيتك لله طرفة عين ؟  
وقال بعضهم : آفة العبد رضاه عن نفسه . ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها . ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					