ومنها وسواء كان معلوم الصفة أو لا ، وهو من شرائط الانعقاد ، فإن كان مجهول القدر أو مجهول النوع لم ينعقد . أن يكون معلوم النوع والقدر
وإن كان معلوم النوع والقدر مجهول الصفة جازت المكاتبة ، والأصل أن متى فحشت منعت جواز المكاتبة ، وإلا فلا ، وجهالة النوع والقدر جهالة فاحشة ، وجهالة الصفة غير فاحشة ، فإنه روي عن الجهالة رضي الله عنه أنه أجاز المكاتبة على الوصفاء بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا على الجواز . عمر
والإجماع على الجواز إجماع على سقوط اعتبار هذا النوع من الجهالة في باب الكتابة ، وبيان هذا الأصل في مسائل : إذا لم تنعقد حتى لا يعتق ، وإن أدى ; لأن الثوب والدار والحيوان مجهول النوع لاختلاف أنواع كل جنس وأشخاصه اختلافا متفاحشا ، وكذا الدور تجري مجرى الأجناس المختلفة لتفاحش التفاوت بين دار ودار في الهيئة والتقطيع وفي القيمة باختلاف المواضع من البلدان والمحال والسكك ، ولهذا منعت هذه الجهالة صحة التسمية والإعتاق على مال والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد فصارت هذه الأشياء لكثرة التفاوت في أنواعها وأشخاصها بمنزلة الأجناس المختلفة ، فيصير كأنه كاتبه على ثوب أو دابة أو حيوان أو دار فأدى طعاما ، ولو كان كذلك لا يعتق ، وإن أدى أعلى الثياب والدواب والدور بخلاف ما إذا كاتبه على قيمة فأدى القيمة أنه يعتق ; لأن التفاوت بين القيمتين لا يلحقهما بجنسين فكانت جهالة القيمة مفسدة للعقد لا مبطلة له ، وإن كاتب عبده على ثوب أو دابة أو حيوان أو دار جازت المكاتبة ; لأن الجهالة ههنا جهالة الوصف ، أنه جيد أو رديء أو وسط ، وأنها لا تمنع صحة التسمية كما في النكاح والخلع ، والأصل أن الحيوان يثبت دينا في الذمة في مبادلة المال بغير المال كما في النكاح ونحوه ، فتصح التسمية ويقع على الوسط كما في باب الزكاة والدية والنكاح ، وكذا لو كاتبه على ثوب هروي أو عبد أو جارية أو فرس يجوز ، ويقع على الوسط ، ولو كاتبه على وصيف كما في النكاح والخلع ونحوهما ، ولو جاء العبد بقيمة الوسط في هذه المواضع يجبر المولى على القبول لم ينعقد ; لأن الجهالة متفاحشة ، ولو كاتبه على لؤلؤة أو ياقوتة يجوز وعليه الوسط من جنسه ; لأنه ثبت دينا في الذمة في مبادلة المال بالمال إذا كان موصوفا ، ويثبت في مبادلة ما ليس بمال بمال وإن لم يكن موصوفا كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والإعتاق على مال ، والمكاتبة معاوضة ما ليس بمال بمال في جانب المولى فتجوز المكاتبة عليه ، ويجب الوسط ، ولو كاتبه على كر حنطة أو ما أشبه ذلك من المكيل والموزون ولم يصف لم تنعقد ; لأن الجهالة ههنا أفحش من جهالة النوع والقدر ; لأن البدل هناك مسمى ، ولا تسمية للبدل ههنا رأسا فكانت الجهالة أكثر ، وإلى هذا أشار في الأصل فقال : أرأيت كاتبه على حكمه أو على حكم نفسه كان يلزمه ؟ أو لو حكم المولى عليه بملء الأرض ذهبا ؟ فلم ينعقد العقد أصلا فلا يعتق بالحكم ، وإن حكم العبد على نفسه بفلس هل كان يعتق جاز استحسانا ، والقياس أن لا يجوز ; لأن الأجل مجهول وجهالة الأجل تبطل البيع فتبطل المكاتبة ، وجه الاستحسان أن الجهالة لم تدخل في صلب العقد ; لأنها لا ترجع إلى البدل وإنما دخلت في أمر زائد ، ثم هي غير متفاحشة فلا توجب فساد المكاتبة كجهالة الوصف بخلاف البيع إلى هذه الأوقات ، أنه يفسد ; لأن الجهالة لا توجب فساد العقد لذاتها بل لإفضائها إلى المنازعة ، والمنازعة قلما تجري في هذا القدر في المكاتبة ; لأن مبناها على المسامحة ، [ ص: 139 ] بخلاف البيع فإن مبناه على المماكسة فيفضي إلى المنازعة ، ولهذا جازت الكفالة إلى هذه الأوقات ، ولم يجز تأجيل الثمن إليها في البيع ، بخلاف كاتب على ألف درهم إلى العطاء أو إلى الدياس أو إلى الحصاد أو نحو ذلك مما يعرف من الأجل ; لأنه ليس لذلك وقت معلوم ففحشت الجهالة . المكاتبة إلى مجيء المطر وهبوب الريح
فإن فإن الأجل يحل في مثل الوقت الذي كان يخرج فيه العطاء ; لأن المراد به العرف والعادة وقت العطاء لا عين العطاء ، وكذا في الحصاد والدياس ، ولو كاتبه إلى العطاء فأخر العطاء فالمكاتبة فاسدة ; لأن القيمة تختلف بتقويم المقومين فكان البدل مجهول القدر ، وإنه مجهول جهالة فاحشة ، ولهذا منعت صحة التسمية في باب النكاح حتى عدل إلى مهر المثل فتمنع صحة المكاتبة بل أولى ; لأن النكاح يجوز بدون تسمية البدل ولا جواز للمكاتبة من غير تسمية البدل ، فلما لم تصح تسمية القيمة هناك فلأن لا تصح ههنا أولى ، ولأن جهالة القيمة موجب للعقد الفاسد فكان ذكرها نصا على الفساد ، بخلاف ما إذا كاتبه على عبد ; لأن جهالة العبد جهالة الوصف ، أي جيد أو رديء أو وسط ، فعند الإطلاق يقع على الوسط والوسط معلوم عندهم ، ألا ترى أن كاتبه على قيمته جعل قيمة الوسط أربعين دينارا . أبا حنيفة
فأما فليست بمكاتبة على بدل معلوم عند الناس عند إطلاق الاسم ، فصار كما المكاتبة على القيمة . لو كاتبه على ألف أو على ألفين
غير أنه إذا أدى القيمة عتق ; لأن العقد الفاسد له حكم في الجملة عندنا كالبيع الفاسد إذا اتصل به القبض ، والنكاح الفاسد إذا اتصل به الدخول ، حتى يثبت الملك في البيع ، وتجب العدة والعقر ويثبت النسب في النكاح ، وكذا المكاتبة الفاسدة ، ولو فالمكاتبة باطلة ولو أدى ثلاثة دراهم لا يعتق ; لأن البدل مجهول جهالة متفاحشة وليس للدراهم وسط معلوم حتى يقع عليه الاسم بخلاف ما إذا قال كاتبتك على دراهم عتق وتلزمه قيمة نفسه ; لأن العتق هناك وقع بالقبول ، والجهالة متفاحشة فلزمه قيمة نفسه ، ولو قال أعتقتك على دراهم فقبل العبد فهو جائز استحسانا ، والقياس أن لا يجوز ، وجه القياس أن الخدمة مجهولة ; لأنها مختلفة ولا يدري في أي شيء يستخدمه وأنه يستخدمه في الحضر أو في السفر ، وجهالة البدل تمنع صحة الكتابة ، وجه الاستحسان أن الخدمة المطلقة تنصرف إلى الخدمة المعهودة فتصير معلومة بالعادة ، وبحال المولى أنه في أي شيء يستخدمه وبحال العبد أنه لأي شيء يصلح فصار كما لو عينها نصا ، ولهذا جازت الإجارة على هذا الوجه فالمكاتبة أولى ; لأنها أقبل للجهالة من الإجارة ولو كاتبه على أن يخدمه شهرا فهو جائز في القياس ، كذا ذكره في الأصل ولم يرد به قياس الأصل ; لأن ذلك يقتضي أن لا يجوز لما ذكرنا وإنما أراد به القياس على الاستحسان الذي ذكرنا ويجوز القياس على موضع الاستحسان ، إذا كان الحكم في الاستحسان معقول المعنى كقياس الجماع ناسيا على قياس الأكل والشرب ناسيا ، ولأن المنافع أموال في العقود ، وأنها تصير معلومة بذكر المدة ، فلا فرق بين أن يستأجر رجلا ليخدمه أو ليخدم غيره ، وكذلك لو كاتبه على أن يخدم رجلا شهرا ، أو على أن يبني له دارا آجرها وجصها وما يبني بها ; لأنه كاتبه على بدل معلوم ، ألا ترى أن الإجارة عليه جائزة ؟ فالكتابة أولى ، ولو كاتبه على أن يحفر بئرا قد سمى له طولها وعمقها ومكانها فالكتابة فاسدة ; لأن البدل مجهول . كاتبه على أن يخدمه ولم يذكر الوقت