الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وبيان هذه الجملة ببيان أنواع المزارعة فنقول وبالله التوفيق : المزارعة أنواع ( منها ) : أن تكون الأرض والبذر والبقر والآلة من جانب ، والعمل من جانب وهذا جائز ; لأن صاحب الأرض يصير مستأجرا للعامل لا غير ليعمل له في أرضه ببعض الخارج الذي هو نماء ملكه وهو البذر .

                                                                                                                                ( ومنها ) : أن تكون الأرض من جانب ، والباقي كله من جانب ، وهذا أيضا جائز ; لأن العامل يصير مستأجرا للأرض لا غير ببعض الخارج الذي هو نماء ملكه وهو البذر ( ومنها ) : أن تكون الأرض والبذر من جانب والبقر والآلة والعمل من جانب فهذا أيضا جائز ; لأن هذا استئجار للعامل لا غير مقصودا فأما البذر فغير مستأجر مقصودا ، ولا يقابله شيء من الأجرة بل هي توابع للمعقود عليه ، وهو منفعة العامل ; لأنه آلة للعمل فلا يقابله شيء من العمل كمن استأجر خياطا فخاط بإبرة نفسه جاز ولا يقابلها شيء من الأجرة ، ولأنه لما كان تابعا للمعقود عليه ، فكان جاريا مجرى الصفة للعمل كان العقد عقدا على عمل جيد ، والأوصاف لا قسط لها من العوض فأمكن أن تنعقد إجارة ثم تتم شركة بين منفعة الأرض وبين منفعة العامل .

                                                                                                                                ( ومنها ) : أن تكون الأرض والبقر من جانب ، والبذر والعمل من جانب وهذا لا يجوز في ظاهر الرواية ، وروي عن أبي يوسف أنه يجوز .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أنه لو كان الأرض والبذر من جانب ، وجعلت منفعة البقر تابعة لمنفعة العامل فكذا ، إذا كان الأرض والبقر من جانب يجب أن يجوز ، ويجعل منفعة البقر تابعة لمنفعة الأرض .

                                                                                                                                ( وجه ) ظاهر الرواية أن العامل هنا يصير مستأجرا للأرض والبقر جميعا مقصودا ببعض الخارج ; لأنه لا يمكن تحقيق معنى التبعية هنا ; لاختلاف جنس المنفعة ; لأن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض ، فبقيت أصلا بنفسها ، فكان هذا استئجار البقر ببعض الخارج أصلا ومقصودا ، واستئجار البقر مقصودا ببعض الخارج لا يجوز لوجهين : أحدهما : ما ذكرنا أن المزارعة تنعقد إجارة ثم تتم شركة ، ولا يتصور انعقاد الشركة بين منفعة البقر وبين منفعة العامل بخلاف الفصل الأول ; لأنه يتصور انعقاد الشركة بين منفعة الأرض ومنفعة العامل والثاني : أن جواز المزارعة ثبت بالنص مخالفا للقياس ; لأن الأجرة معدومة ، وهي مع انعدامها مجهولة فيقتصر جوازها على المحل الذي ورد النص فيه ، وذلك فيما إذا كانت الآلة تابعة ، فإذا جعلت مقصودة يرد إلى القياس

                                                                                                                                ( ومنها ) : أن يكون البذر والبقر من جانب ، والأرض والعمل من جانب ، وهذا لا يجوز أيضا ; لأن صاحب البذر يصير مستأجرا للأرض والعامل جميعا ببعض الخارج ، والجمع بينهما يمنع صحة المزارعة .

                                                                                                                                ( ومنها ) : أن يكون البذر من جانب ، والباقي كله من جانب ، وهذا لا يجوز أيضا ; لما قلنا وروي عن أبي يوسف في هذين الفصلين أيضا أنه يجوز ; لأن استئجار كل واحد منهما جائز عند الانفراد فكذا عند الاجتماع ( والجواب ) : ما ذكرنا أن الجواز على مخالفة القياس ثبت عند الانفراد فتبقى حالة الاجتماع على أصل القياس ، وطريق الجواز في هذين الفصلين بالاتفاق أن يأخذ صاحب البذر الأرض مزارعة ثم يستعير من صاحبها ليعمل له فيجوز ، والخارج يكون بينهما على الشرط .

                                                                                                                                ( ومنها ) : أن يشترك جماعة من أحدهم الأرض ومن الآخر البقر ومن الآخر البذر ومن الرابع العمل ، وهذا لا يجوز ; أيضا لما مر ، وفي عين هذا ورد الخبر بالفساد ، فإنه روي أن أربعة نفر اشتركوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 180 ] على هذا الوجه فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم مزارعتهم ، وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف يجوز .

                                                                                                                                ( ومنها ) : أن يشترط في عقد المزارعة أن يكون بعض البذر من قبل أحدهما ، والبعض من قبل الآخر ، وهذا لا يجوز ; لأن كل واحد منهما يصير مستأجرا صاحبه في قدر بذره ، فيجتمع استئجار الأرض والعمل من جانب واحد وإنه مفسد .

                                                                                                                                ( ومنها ) : أن تكون الأرض من جانب ، والبذر والبقر من جانب دفع صاحب الأرض أرضه إليه على أن يزرعها ببذره وبقره مع هذا الرجل الآخر على أن ما خرج من شيء فثلثه لصاحب الأرض ، وثلثاه لصاحب البذر والبقر ، وثلثه لذلك العامل ، وهذا صحيح في حق صاحب الأرض ، والعامل الأول فاسد في حق العامل الثاني ، ويكون ثلث الخارج لصاحب الأرض ، وثلثاه للعامل الأول ، وللعامل الثاني أجر مثل عمله ، وكان ينبغي أن تفسد المزارعة في حق الكل لأن صاحب البذر ، وهو العامل الأول جمع بين استئجار الأرض ، والعامل وقد ذكرنا أن الجمع بينهما مفسد للعقد ; لكونه خلاف مورد الشرع بالمزارعة ، ومع ذلك حكم بصحتها في حق صاحب الأرض والعامل الأول ، وإنما كان كذلك ; لأن العقد فيما بين صاحب الأرض والعامل الأول وقع استئجارا للأرض لا غير وإنه صحيح ، وفيما بين العاملين وقع استئجار الأرض والعامل جميعا وإنه غير صحيح ، ويجوز أن يكون العقد الواحد له جهتان : جهة الصحة وجهة الفساد خصوصا في حق شخصين ، فيكون صحيحا في حق أحدهما فاسدا في حق الآخر .

                                                                                                                                ولو كان البذر في هذه المسألة من صاحب الأرض صحت المزارعة في حق الكل ، والخارج بينهم على الشرط ; لأن صاحب الأرض في هذه الصورة يعتبر مستأجرا للعاملين جميعا ، والجمع بين استئجار العاملين لا يقدح في صحة العقد ، وإذا صح العقد كان الخارج على الشرط .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية