الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) أن لا يكون المصالح بالصلح على الصغير مضرا به مضرة ظاهرة حتى أن من ادعى على صبي دينا فصالح أب الوصي من دعواه على مال الصبي الصغير ، فإن كان للمدعي بينة ، وما أعطى من المال مثل الحق المدعى ، أو زيادة يتغابن في مثلها ، فالصلح جائز ; لأن الصلح في هذه الصورة لمعنى المعاوضة لإمكان الوصول إلى كل الحق بالبينة ، والأب يملك المعاوضة من مال الصغير بالغبن اليسير ، وإن لم تكن له بينة لا يجوز ; لأن عند انعدام البينة يقع الصلح تبرعا بمال الصغير ، وأنه ضرر محض ، فلا يملكه الأب .

                                                                                                                                ولو صالح من مال نفسه جاز ; لأنه ما أضر بالصغير ، بل نفعه حيث قطع الخصومة عنه .

                                                                                                                                ولو ادعى أبو الصغير على إنسان دينا للصغير فصالح على أن حط بعضه ، وأخذ الباقي فإن كان له عليه بينة ; لا يجوز ; لأن الحط منه تبرع من ماله ، وهو لا يملك ذلك ، وإن صالحه على مثل قيمة ذلك الشيء أو نقص منه شيئا يسيرا جاز ; لأن الصلح في هذه الصورة بمعنى البيع ، وهو يملك البيع فيملك الصلح ، وهل يملك الأب الحط من دين وجب للصغير ، والإبراء عنه هذا لا يخلو من أحد وجهين : ( إما ) إن كان ولي ذلك العقد بنفسه ( وإما ) إن لم يكن وليه فإن لم يكن وليه لا يجوز بالإجماع ; لأن الحط ، والإبراء من باب التبرع ، والأب لا يملك التبرع ; لكونه مضرة محضة ، وإن كان وليه بنفسه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا يجوز وهذا على اختلافهم في الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري عن الثمن ، أو حط بعضه ، وقد ذكرناه في كتاب الوكالة ، ولا يجوز صلح أحد على حمل أيا كان المصالح أو غيره ، وإن خرج حيا بعد ذلك وورث وجازت الوصايا ; لأنه لو صح عليه ; لكان لا يخلو إما أن يصح على اعتبار الحال ، وإما أن يصح على اعتبار الانفصال لا سبيل إلى الأول ; لأن الصلح عليه من باب تنفيذ الولاية ، وهو للحال لا يوصف بكونه موليا عليه ، ولا سبيل إلى الثاني ; لأن الصلح لا يحتمل الإضافة إلى الوقت ، ويملك الأب استيفاء القصاص في النفس وما دونها ، ولا يملك الوصي استيفاء القصاص في النفس .

                                                                                                                                والفرق أن استيفاء القصاص تصرف [ ص: 42 ] على نفس الصغير بالإحياء ، وتحصيل التشفي قال الله تعالى عز شأنه { ، ولكم في القصاص حياة } ، وكذا منفعة التشفي راجعة إلى نفسه ، وللأب ، ولاية على نفس الصغير ، ولا ولاية للوصي عليها ، ولهذا ملك إنكاحه دون الوصي إلا أنه يملك القصاص فيما دون النفس ; لأن ما دون النفس يسلك به مسلك الأموال لشبهه بالأموال ألا ترى أن القصاص لا يجري بين طرف الحر والعبد ، ولا بين طرف الذكر ، والأنثى مع جريان القصاص بينهم في الأنفس ، ويستوفى القصاص فيما دون النفس في الحر كما يستوفى في سائر الحقوق المالية فيه ، ولا يستوفى القصاص في النفس فيه ، ويقضى بالنكول في الأطراف ، كما يقضى به في الأموال عند أبي حنيفة ، ولا يقضى به في الأنفس ، وله ولاية التصرف في الحال ، والمآل فيلي التصرف فيما دون النفس ، ويملك الأب الصلح عن القصاص في النفس ، وما دونه ; لأنه لما ملك الاستيفاء ، فلأن يملك الصلح أولى ; لأنه أنفع من الاستيفاء ، وكذا الوصي يملك الصلح عن القصاص فيما دون النفس ; لأنه يملك الاستيفاء فيما دون النفس ، فكذا الصلح عنه ; لأنه أنفع ، وهل يملك الصلح عن القصاص في النفس ذكر في كتاب الصلح أنه لا يملك ، وذكر في الجامع الصغير أنه يملك ، وكذا روى القدوري رحمه الله فعلى رواية الجامع يحتاج إلى الفرق بين الاستيفاء وبين الصلح .

                                                                                                                                ( ووجه ) الفرق بينهما ظاهر لما ذكرنا أن القصاص تصرف في النفس بتحصيل الحياة ، والتشفي ، ولا ولاية له على نفسه فلا يملك الاستيفاء ، فأما الصلح فتصرف في المال وله ولاية التصرف في المال ، وأنه فرق واضح .

                                                                                                                                ( وجه ) رواية الصلح أن الصلح اعتياض عن القصاص فإذا لم يملك القصاص ، فكيف يملك الاعتياض عنه ؟ ولو صالح الأب أو الوصي على أقل من الدية في الخطإ ، وشبه العمد لا يجوز ; لأن الحط تبرع ، وهما لا يملكان التبرع بمال اليتيم ، والحط القليل والكثير سواء بخلاف الغبن اليسير في البيع أنهما يملكانه ، والفرق أن الحط نقصان متحقق ; لأن الدية مقدرة بمقدار معلوم فالنقصان عنه متحقق وإن قل والنقصان في البيع غير متحقق ; لأن العوض فيه غير مقدر لاختلافه بتقويم المقومين فإذا لم يتقدر العوض لا يتحقق النقصان .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية