الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما بيان أن العدالة شرط قبول أصل الشهادة وجودا ، أم شرط القبول مطلقا وجوبا ووجودا ، فقد اختلف فيه ، قال أصحابنا - رحمهم الله - : إنها شرط القبول للشهادة وجودا على الإطلاق ووجوبا لا شرط أصل القبول حتى يثبت القبول بدونه ، وقال الشافعي - عليه الرحمة - : إنها شرط أصل القبول لا يثبت القبول أصلا دونها ، حتى إن القاضي لو تحرى الصدق في شهادة الفاسق يجوز له قبول شهادته ، ولا يجوز القبول من غير تحر بالإجماع .

                                                                                                                                وكذا لا يجب عليه القبول بالإجماع ، وله أن يقبل شهادة العدل من غير تحر ، وإذا شهد يجب عليه القبول ، وهذا هو الفصل بين شهادة العدل وبين شهادة الفاسق عندنا ، وعند الشافعي - عليه الرحمة - لا يجوز للقاضي أن يقضي بشهادة الفاسق أصلا ، وكذا ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين عندنا ، وعنده لا ينعقد .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الشافعي - رحمه الله - أن مبنى قبول الشهادات على الصدق ، ولا يظهر الصدق إلا بالعدالة ; ; لأن خبر من ليس بمعصوم عن الكذب يحتمل الصدق [ ص: 271 ] والكذب ، ولا يقع الترجيح إلا بالعدالة ، واحتج في انعقاد النكاح بقوله عليه الصلاة والسلام { لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل } .

                                                                                                                                ( ولنا ) عمومات قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وقوله عليه الصلاة والسلام { لا نكاح إلا بشهود } والفاسق شاهد لقوله سبحانه وتعالى { ممن ترضون من الشهداء } قسم الشهود إلى مرضيين وغير مرضيين ، فيدل على كون غير المرضي - وهو الفاسق - شاهدا ; ولأن حضرة الشهود في باب النكاح لدفع تهمة الزنا - لا للحاجة إلى شهادتهم عند الجحود والإنكار ; ; لأن النكاح يشتهر بعد وقوعه - فيمكن دفع الجحود والإنكار بالشهادة بالتسامع ، والتهمة تندفع بحضرة الفاسق فينعقد النكاح بحضرتهم .

                                                                                                                                وأما قوله : " الركن في الشهادة هو صدق الشاهد " فنعم ، لكن الصدق لا يقف على العدالة لا محالة ، فإن من الفسقة من لا يبالي بارتكابه أنواعا من الفسق ، ويستنكف عن الكذب ، والكلام في فاسق تحرى القاضي الصدق في شهادته فغلب على ظنه صدقه - ولو لم يكن كذلك - لا يجوز القضاء بشهادته عندنا .

                                                                                                                                وأما الحديث فقد روي عن بعض نقلة الحديث أنه قال : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يثبت ، فلا حجة له فيه بل هو حجة عليه ; لأنه ليس فيه جعل العدالة صفة للشاهد ; ; لأنه لو كان كذلك لقال : لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين ، بل هذا إضافة الشاهدين إلى العدل ، وهو كلمة التوحيد فكأنه قال عليه الصلاة والسلام لا نكاح إلا بولي مقابلي كلمة العدل ، وهي كلمة الإسلام ، والفاسق مسلم فينعقد النكاح بحضرته ومنها أن لا يكون محدودا في قذف عندنا وهو شرط الأداء ، وعند الشافعي - رحمه الله - ليس بشرط ، واحتج بعمومات الشهادة من غير فصل ; لأن المانع هو الفسق بالقذف ، وقد زال بالتوبة .

                                                                                                                                ( ولنا ) قوله تعالى جل وعلا { والذين يرمون المحصنات } " الآية " نهى سبحانه وتعالى عن قبول شهادة الرامي على التأبيد ، فيتناول زمان ما بعد التوبة ، وبه تبين أن المحدود في القذف مخصوص من عمومات الشهادة عملا بالنصوص كلها صيانة لها عن التناقض ، وكذلك الذمي إذا قذف مسلما فحد حد القذف لا تقبل شهادته على أهل الذمة ، فإن أسلم جازت شهادته عليهم وعلى المسلمين .

                                                                                                                                وبمثله العبد المسلم إذا قذف حرا ثم حد حد القذف ، ثم عتق لا تقبل شهادته أبدا ، وإن أعتق ( ووجه ) الفرق أن إقامة الحد توجب بطلان شهادة كانت للقاذف قبل الإقامة والثابت للذمي قبل إقامة الحد شهادته على أهل الذمة ، لا على أهل الإسلام ، فتبطل تلك الشهادة بإقامة الحد ، فإذا أسلم فقد حدثت له بالإسلام شهادة غير مردودة ، وهي شهادة على أهل الإسلام ، ; لأنها لم تكن له لتبطل بالحد فتقبل هذه الشهادة ، ثم من ضرورة قبول شهادته على أهل الإسلام قبول شهادته على أهل الذمة بخلاف العبد ; ; لأن العبد من أهل الشهادة ، وإن لم تكن له شهادة مقبولة ; لأن له عدالة الإسلام ، والحد أبطل ذلك على التأبيد ، ولو ضرب الذمي بعض الحد فأسلم ، ثم ضرب الباقي تقبل شهادته ; لأن المبطل للشهادة إقامة الحد في حالة الإسلام ، ولم توجد ; لأن الحد اسم للكل فلا يكون البعض حدا ; لأن الحد لا يتجزأ ، وهذا جواب ظاهر الرواية .

                                                                                                                                وذكر الفقيه أبو الليث - عليه الرحمة - روايتين أخريين فقال في رواية " لا تقبل شهادته " ، وفي رواية : تقبل شهادته ، ولو ضرب سوطا واحدا في الإسلام ; ; لأن السياط المتقدمة توقف كونها حدا على وجود السوط الأخير ، وقد وجد كمال الحد في حالة الإسلام ، وفي رواية اعتبر الأكثر : إن وجد أكثر الحد في حال الإسلام تبطل شهادته وإلا ، فلا ; لأن للأكثر حكم الكل في الشرع ، والصحيح جواب ظاهر الرواية ، لما ذكرنا أن الحد اسم للكل ، وعند ضرب السوط الأخير تبين أن السياط كلها كانت حدا ، ولم يوجد الكل في حال الإسلام ، بل البعض فلا ترد به الشهادة الحادثة بالإسلام ، هذا إذا شهد بعد إقامة الحد وبعد التوبة ، فأما إذا شهد بعد التوبة قبل إقامة الحد ، فتقبل شهادته بالإجماع ، ولو شهد بعد إقامة الحد قبل التوبة لا تقبل شهادته بالإجماع ، ولو شهد قبل التوبة وقبل إقامة الحد فهي مسألة شهادة الفاسق وقد مرت .

                                                                                                                                وأما النكاح بحضرة المحدودين في القذف فينعقد بالإجماع ، أما عند الشافعي - رحمه الله - ; فلأن له شهادة أداء ، فكانت له شهادة سماعا ، وأما عندنا ; فلأن حضرة الشهود لدى النكاح ليست لدفع الجحود والإنكار لاندفاع الحاجة بالشهادة بالتسامع ، بل لرفع ريبة الزنا والتهمة به ، وذا يجعل بحضرة المحدودين في القذف ، فينعقد النكاح بحضرتهم ، ولا تقبل شهادتهم للنهي عن القبول ، والانعقاد ينفصل [ ص: 272 ] عن القبول في الجملة وأما المحدود في الزنا والسرقة والشرب فتقبل شهادته بالإجماع إذا تاب ; لأنه صار عدلا ، والقياس أن تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب لولا النص الخاص بعدم القبول على التأبيد .

                                                                                                                                ومنها أن لا يجر الشاهد إلى نفسه مغنما ، ولا يدفع عن نفسه مغرما بشهادته لقوله عليه الصلاة والسلام { لا شهادة لجار المغنم ولا لدافع المغرم } ، ; ولأن شهادته إذا تضمنت معنى النفع والدفع فقد صار متهما ، ولا شهادة للمتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ولأنه إذا جر النفع إلى نفسه بشهادته لم تقع شهادته لله تعالى - عز وجل - ، بل لنفسه ، فلا تقبل وعلى هذا تخرج شهادة الوالد ، وإن علا لولده وإن سفل ، وعكسه أنها غير مقبولة ; ; لأن الوالدين والمولودين ينتفع البعض بمال البعض عادة ، فيتحقق معنى جر النفع ، والتهمة ، والشهادة لنفسه فلا تقبل ، وذكر الخصاف - رحمه الله - في أدب القاضي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : { لا تقبل شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا السيد لعبده ، ولا العبد لسيده ، ولا الزوجة لزوجها ، ولا الزوج لزوجته } .

                                                                                                                                وأما سائر القرابات ، كالأخ والعم والخال ونحوهم فتقبل شهادة بعضهم لبعض ; ; لأن هؤلاء ليس لبعضهم تسلط في مال البعض ، عرفا وعادة فالتحقوا بالأجانب ، وكذا تقبل شهادة الوالد من الرضاع لولده من الرضاع ، وشهادة الولد من الرضاع لوالده من الرضاع ; لأن العادة ما جرت بانتفاع هؤلاء بعضهم بمال البعض فكانوا كالأجانب ، ولا تقبل شهادة المولى لعبده ، ولا شهادة العبد لمولاه لما قلنا .

                                                                                                                                وأما شهادة أحد الزوجين لصاحبه فلا تقبل عندنا ، وعند الشافعي - رحمه الله - تقبل ، واحتج بعمومات الشهادة من غير تخصيص ، نحو قوله تعالى - جل وعلا - { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وقوله - عز شأنه - { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقوله - عظمت كبرياؤه - { ممن ترضون من الشهداء } من غير فصل بين عدل وعدل ، ومرضي ومرضي .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روينا من النصوص من قوله عليه الصلاة والسلام " لا شهادة لجار المغنم " ، ولا شهادة للمتهم ، وأحد الزوجين بشهادته للزوج الآخر يجر المغنم إلى نفسه ، ; لأنه ينتفع بمال صاحبه عادة ، فكان شاهدا لنفسه ، لما روينا من حديث الخصاف - رحمه الله - وأما العمومات فنقول بموجبها لكن لما قلتم إن أحد الزوجين في الشهادة لصاحبه عدل ومرضي ، بل هو مائل ومتهم لما قلنا ، لا يكون شاهدا فلا تتناوله العمومات ، وكذا لا تقبل شهادة الأجير له في الحادثة التي استأجره فيها لما فيه من تهمة جر النفع إلى نفسه ، ولا تقبل شهادة أحد الشريكين لصاحبه في مال الشركة ، ولو شهد رجلان لرجلين على الميت بدين ألف درهم ، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين على الميت بدين ألف درهم ، فشهادة الفريقين باطلة عند أبي حنيفة - عليه الرحمة - وأبي يوسف - رحمه الله - وعند محمد - رحمه الله - جائزة ، وعلى هذا الخلاف لو شهدا أن الميت أوصى لهما بالثلث ، وشهد المشهود لهما أن الميت أوصى للشاهدين بالثلث ، ولو شهدا أن الميت غصبهما دارا أو عبدا وشهد المشهود لهما للشاهدين بدين ألف درهم ، فشهادة الفريقين جائزة بالإجماع ، لمحمد - رحمه الله - أن كل فريق يشهد لغيره لا لنفسه ، فلا يكون متهما في شهادته ، ولهما أن ما يأخذه كل فريق ، فالفريق الآخر يشاركه فيه ، فكان كل فريق شاهدا لنفسه بخلاف ما إذا اختلف جنس المشهود به ; ; لأن ثمة معنى الشركة لا يتحقق .

                                                                                                                                ومنها أن لا يكون خصما لقوله عليه الصلاة والسلام { لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ، } ; ولأنه إذا كان خصما فشهادته تقع لنفسه فلا تقبل ، وعلى هذا تخرج شهادة الوصي للميت واليتيم الذي في حجره ; ; لأنه خصم فيه ، وكذا شهادة الوكيل لموكله لما قلنا ومنها أن يكون عالما بالمشهود به وقت الأداء ، ذاكرا له عند أبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما ليس بشرط حتى إنه لو رأى اسمه وخطه وخاتمه في الكتاب ، لكنه لا يذكر الشهادة ، لا يحل له أن يشهد ، ولو شهد وعلم القاضي به لا تقبل شهادته عنده ، وعندهما له أن يشهد ، ولو شهد تقبل شهادته ( وجه ) قولهما أنه لما رأى اسمه وخطه وخاتمه على الصك ، دل أنه تحمل الشهادة ، وهي معلومة في الصك ، فيحل له أداؤها ، وإذا أداها تقبل ، ; ولأن النسيان أمر جبل عليه الإنسان خصوصا عند طول المدة بالشيء ; ; لأن طول المدة ينسي ، فلو شرط تذكر الحادثة لأداء الشهادة لانسد باب الشهادة فيؤدي إلى تضييع الحقوق ، وهذا لا يجوز .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة - رحمه الله - قوله تعالى - جل شأنه { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقوله عليه الصلاة والسلام لشاهد { إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا [ ص: 273 ] فدع } ، ولا اعتماد على الخط والختم ; ; لأن الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم ويجري فيه الاحتيال والتزوير مع ما أن الخط للتذكر فخط لا يذكر ، وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ، وعلى هذا الخلاف إذا وجد القاضي في ديوانه شيئا لا يذكره - وديوانه تحت ختمه - أنه لا يعمل به عنده ، وعندهما يعمل إذا كان تحت ختمه ، وعلى هذا الخلاف إذا عزل القاضي ، ثم استقضى بعدما عزل ، فأراد أن يعمل بشيء مما يرى في ديوانه الأول ، ولم يذكر ذلك ، ليس له ذلك عنده ، وعندهما له ذلك ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية