في هذه السنة دخلت العرب إلى إفريقية .
وسبب ذلك أن كان خطب المعز بن باديس للقائم بأمر الله الخليفة العباسي ، وقطع خطبة صاحب المستنصر العلوي مصر سنة أربعين وأربعمائة ، فلما فعل ذلك كتب إليه يتهدده ، فأغلظ المستنصر العلوي المعز في الجواب .
ثم إن المستنصر استوزر الحسن بن علي اليازوري ، ولم يكن من أهل الوزارة ، إنما كان من أهل التناية والفلاحة ، فلم يخاطبه المعز كما كان يخاطب من قبله من الوزراء ، كان يخاطبهم بعبده ، فخاطب اليازوري بصنيعته ، فعظم ذلك عليه فعاتبه ، فلم يرجع إلى ما يحب ، فأكثر الوقيعة في المعز ، وأغرى به المستنصر ، وشرعوا في إرسال العرب إلى الغرب ، فأصلحوا بني زغبة ورياح ، وكان بينهم حروب وحقود ، وأعطوهم مالا ، وأمروهم بقصد بلاد القيروان ، وملكوهم كل ما يفتحونه ، [ ص: 87 ] ووعدوهم بالمدد والعدد .
فدخلت العرب إلى إفريقية ، وكتب اليازوري إلى المعز : أما بعد ، فقد أرسلنا إليكم خيولا فحولا ، وحملنا عليها رجالا كهولا ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا . فا حلوا أرض برقة وما والاها وجدوا بلادا كثيرة المرعى خالية من الأهل ; لأن زناتة كانوا أهلها فأبادهم المعز ، فأقامت العرب بها واستوطنتها ، وعاثوا في أطراف البلاد . وبلغ ذلك المعز فاحتقرهم .
وكان المعز لما رأى تقاعد صنهاجة عن قتال زناتة اشترى العبيد ، وأوسع لهم في العطاء ، فاجتمع له ثلاثون ألف مملوك .
وكانت عرب زغبة قد ملكت مدينة طرابلس سنة ست وأربعين [ وأربعمائة ] ، فتتابعت رياح والأثبج وبنو عدي إلى إفريقية ، وقطعوا السبيل وعاثوا في الأرض ، وأرادوا الوصول إلى القيروان ، فقال مؤنس بن يحيى المرداسي : ليس المبادرة عندي برأي . فقالوا : كيف تحب أن تصنع ؟ فأخذ بساطا فبسطه ، ثم قال لهم : من يدخل إلى وسط الب من غير أن يمشي عليه ؟ قالوا : لا نقدر على ذلك ! قال : فهكذا القيروان ، خذوا شيئا فشيئا حتى لا يبقى إلا القيروان ، فخذوها حينئذ . فقالوا : إنك لشيخ اوأميرها ، وأنت المقدم علينا ، ولسنا نقطع أمرا دونك .
ثم قدم أمراء العرب إلى المعز فأكرمهم وبذل لهم شيئا كثيرا ، فلما خرجوا من عنده لم يجازوه بما فعل من الإحسان ، بل شنوا الغارات ، وقطعوا الطريق ، وأفسدوا الزروع ، وقطعوا الثمار ، وحاصروا المدن ، فضاق بالناس الأمر وساءت أحوالهم ، وانقطعت أسفارهم ، ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله قط ، فحينئذ احتفل المعز وجمع عساكره ، فكانوا ثلاثين ألف فارس ، ومثلها رجالة ، وسار حتى أتى جندران ، وهو جبل بينه وبين القيروان ثلاثة أيام ، وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس ، فلما [ ص: 88 ] رأت العرب عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم ذلك ، وعظم عليهم ، فقال لهم مؤنس بن يحيى : ما هذا يوم فرار . فقالوا : أين نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكزادات والمغافر ؟ قال : في أعينهم . فسمي ذلك اليوم يوم العين . والتحم القتال واشتدت الحرب ، فاتفقت صنهاجة على الهزيمة وترك المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم ، ويقتل أكثرهم ، فعند ذلك يرجعون على العرب ، فانهزمت صنهاجة وثبت العبيد مع المعز ، فكثر القتل فيهم ، فقتل منهم خلق كثير ، وأرادت صنهاجة الرجوع على العرب فلم يمكنهم ذلك ، واستمرت الهزيمة ، وقتل من صنهاجة أمة عظيمة ، ودخل المعز القيروان مهزوما ، على كثرة من معه ، وأخذت العرب الخيل والخيام وما فيها من مال وغيره ، وفيه يقول بعض الشعراء :
وإن ابن باديس لأفضل مالك ولكن لعمري ما لديه رجال ثلاثون ألفا منهم غلبتهم
ثلاثة ألف إن ذا لمحال
ولما كان يوم النحر من هذه السنة جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس ، وسار إلى العرب جريدة ، وسبق خبره ، وهجم عليهم وهم في صلاة العيد ، فركبت العرب خيولهم وحملت ، فانهزمت صنهاجة ، فقتل منهم عالم كثير .
ثم جمع المعز وخرج بنفسه في صنهاجة وزناتة في جمع كثير ، فلما أشرف على بيوت العرب ، وهو قبلي جبل جندران - ( انتشب القتال ) ، واشتعلت نيران الحرب ، وكانت العرب سبعة آلاف فارس ، فانهزمت ( صنهاجة ، وولى كل رجل منهم إلى منزله ، وانهزمت ) زناتة ، وثبت المعز فيمن معه من عبيده ثباتا عظيما لم يسمع بمثله ، ثم [ ص: 89 ] انهزم وعاد إلى المنصورية . وأحصي من قتل من صنهاجة ذلك اليوم ، فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة .
ثم أقبلت العرب حتى نزلت بمصلى القيروان ، ووقعت الحرب ، فقتل من المنصورية ورقادة خلق كثير ، فلما رأى ذلك المعز أباحهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء ، فلما دخلوا استطالت عليهم العامة ، ووقعت بينهم حرب كان سببها فتنة بين إنسان عربي وآخر عامي ، وكانت الغلبة للعرب .
سور زويلة والقيروان ، وفي سنة ست وأربعين حاصرت العرب وفي سنة أربع وأربعين [ وأربعمائة ] بني القيروان ، وملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة ، وأشار المعز على الرعية بالانتقال إلى المهدية لعجزه عن حمايتهم من العرب .
وشرعت العرب في هدم الحصون والقصور ، وقطعوا الثمار وخربوا الأنهار ، وأقام المعز والناس ينتقلون إلى المهدية إلى سنة تسع وأربعين ، فعندها انتقل المعز إلى المهدية في شعبان ، فتلقاه ابنه تميم ، ومشى بين يديه ، وكان أبوه قد ولاه المهدية سنة خمس وأربعين ، فأقام بها إلى أن قدم أبوه الآن .
وفي رمضان من سنة تسع وأربعين نهبت العرب القيروان .
وفي سنة خمسين خرج بلكين ومعه العرب لحرب زناتة ، فقاتلهم ، فانهزمت زناتة وقتل منها عدد كثير .
وفي سنة ثلاث وخمسين ( وقعت الحرب بين العرب وهوارة ، فانهزمت هوارة وقتل منها الكثير .
وفي سنة ثلاث وخمسين ) قتل أهل تقيوس من العرب مائتين وخمسين رجلا ، [ ص: 90 ] وسبب ذلك أن العرب دخلت المدينة متسوقة ، فقتل رجل من العرب رجلا متقدما من أهل البلد ، لأنه سمعه يثني على المعز ويدعو له ، فلما قتل ثار أهل البلد بالعرب ، فقتلوا منهم العدد المذكور .
وكان ينبغي أن يأتي كل شيء من ذلك في السنة التي حدث فيها ، وإنما أوردناه متتابعا ليكون أحسن لسياقته ، فإنه إذا انقطع وتخللته الحوادث في السنين لم يفهم .