الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ابتداء حاله وشيء من أخباره

أما ابتداء حاله ، فكان من أبناء الدهاقين بطوس ، فزال ما كان لأبيه من مال ، وملك ، وتوفيت أمه وهو رضيع ، فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حسبة ، حتى شب ، وتعلم العربية ، وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة ، والاشتغال بالعلم ، فتفقه ، وصار فاضلا ، وسمع الحديث الكثير ، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية ، ولم يزل الدهر يعلو به ، ويخفض حضرا ، وسفرا .

وكان يطوف بلاد خراسان ، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين ، ثم لزم أبا علي بن شاذان متولي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان ، فحسنت حاله معه ، وظهرت كفايته وأمانته ، وصار معروفا عندهم بذلك ، فلما حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب أرسلان به ، وعرفه حاله ، فولاه شغله ، ثم [ ص: 357 ] صار وزيرا له إلى أن ولي السلطنة بعد عمه طغرلبك ، واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة ، وآراء سديدة قادت السلطنة إلى ألب أرسلان ، فلما توفي ألب أرسلان قام بأمر ابنه ملكشاه ، وقد تقدم ذكر هذه الجمل مستوفى مشروحا .

وقيل : إن ابتداء أمره ( أنه كان يكتب للأمير تاجر ، صاحب بلخ ، وكان الأمير ) يصادره في رأس كل سنة ، ويأخذ ما معه ، ويقول له : قد سمنت يا حسن ! ويدفع إليه فرسا ومقرعة ويقول : هذا يكفيك ، فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك ، ومؤيد الملك ، وهرب إلى جغري بك داود ، والد ألب أرسلان ، فوقف فرسه في الطريق ، فقال : اللهم إني أسألك فرسا تخلصني عليه ! فسار غير بعيد ، فلقيه تركماني ، وتحته فرس جواد ، فقال لنظام الملك : انزل عن فرسك ، فنزل عنه ، فأخذه التركماني وأعطاه فرسه ، فركبه ، وقال له : لا تنسني يا حسن ، قال نظام الملك : فقويت نفسي بذلك ، وعلمت أنه ابتداء سعادة . فسار نظام الملك إلى مرو ، ودخل على داود ، فلما رآه أخذ بيده ، وسلمه إلى ولده ألب أرسلان ، وقال له : هذا حسن الطوسي ، فتسلمه ، واتخذه والدا لا تخالفه .

وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو ، فقال لداود : هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي ، فقال له داود : حديثك مع محمد ، يعني ألب أرسلان ، ( فكان اسمه محمدا ) ، فلم يتجاسر تاجر على خطابه ، فتركه وعاد .

وأما أخباره ، فإنه كان عالما ، دينا ، جوادا عادلا ، حليما كثير الصفح عن المذنبين ، طويل الصمت ، كان مجلسه عامرا بالقراء ، والفقهاء ، وأئمة المسلمين ، وأهل الخير والصلاح ، وأمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد ، وأجرى لها الجرايات العظيمة ، وأملى الحديث بالبلاد : ببغداذ وخراسان وغيرهما ، وكان يقول :

[ ص: 358 ] إني لست من أهل هذا الشأن - لما تولاه - ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - .

وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه ، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة ، وكان إذا غفل المؤذن ، ودخل الوقت يأمره بالأذان ، وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات ، ولزوم الصلوات .

وأسقط المكوس ، والضرائب ، وأزال لعن الأشعرية من المنابر ، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة ، فأمره بذلك ، فأضاف إليهم الأشعرية ، ولعن الجميع ، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم ، مثل إمام الحرمين ، وأبي القاسم القشيري ، وغيرهما ، فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه ، وأعاد العلماء إلى أوطانهم .

وكان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري ، والإمام أبو المعالي الجويني ، يقوم لهما ، ويجلس في مسنده ، كما هو ، وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم ( إليه ، ويجلسه في مكانه ) ، ويجلس هو بين يديه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن هذين وأمثالهما إذا دخلوا علي يقولون لي : أنت كذا وكذا ، يثنون علي بما ( ليس في ) ، فيزيدني كلامهم عجبا وتيها ، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي ، وما أنا فيه من الظلم ، فتنكسر نفسي لذلك ، وأرجع عن كثير مما أنا فيه .

وقال نظام الملك :

كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة ، ومسجد أنفرد فيه لعبادة ربي ، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها ، ( ومسجد [ ص: 359 ] أعبد الله فيه ) ، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم ، ومسجد أعبد الله فيه .

وقيل : كان ليلة يأكل الطعام ، وبجانبه أخوه أبو القاسم ، وبالجانب الآخر عميد خراسان ، وإلى جانب العميد إنسان فقير ، مقطوع اليد ، فنظر نظام الملك ، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع ، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر ، وقرب المقطوع إليه فأكل معه .

وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ، ويقربهم إليه ، ويدنيهم . وأخباره مشهورة كثيرة ، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية