الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 323 ] ذكر خروج ملك الروم إلى خلاط وأسره .

في هذه السنة خرج أرمانوس ملك الروم في مائتي ألف من الروم ، والفرنج ، والغرب ، والروس ، والبجناك ، والكرج ، وغيرهم ، من طوائف تلك البلاد ، فجاءوا في تجمل كثير ، وزي عظيم ، وقصد بلاد الإسلام ، فوصل إلى ملازكرد من أعمال خلاط . فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر . وهو بمدينة خوي من أذربيجان ، قد عاد من حلب . وسمع ما هو ملك الروم فيه من كثرة الجموع ، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو ، فسير الأثقال مع زوجته ونظام الملك إلى همذان ، وسار هو فيمن عنده من العساكر ، وهم خمسة عشر ألف فارس . وجد في السير وقال لهم : إنني أقاتل محتسبا صابرا ، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى ، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي ، وساروا .

فلما قارب العدو جعل له مقدمة ، فصادفت مقدمته ، عند خلاط ، مقدم الروسية في نحو عشرة آلاف من الروم ، فاقتتلوا ، فانهزمت الروسية ، وأسر مقدمهم ، وحمل إلى السلطان ، فجدع أنفه ، وأنفذ بالسلب إلى نظام الملك ، وأمره أن يرسله إلى بغداذ ، فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة ، فقال : لا هدنة إلا بالري ، فانزعج السلطان لذلك ، فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري ، الحنفي : إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان ، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح ، فالقهم يوم الجمعة ، بعد الزوال ، في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر ، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر ، والدعاء مقرون بالإجابة .

[ ص: 224 ] فلما كانت تلك الساعة صلى بهم ، وبكى السلطان ، فبكى الناس لبكائه ، ودعا ودعوا معه وقال لهم : من أراد الانصراف فلينصرف ، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى ، وألقى القوس والنشاب ، وأخذ السيف والدبوس ، وعقد ذنب فرسه بيده ، وفعل عسكره مثله ، ولبس البياض ، وتحنط ، وقال : إن قتلت فهذا كفني .

وزحف إلى الروم وزحفوا إليه ، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب ، وبكى ، وأكثر الدعاء ، ثم ركب وحمل ، وحملت العساكر معه ، فحصل المسلمون في وسطهم وحجز الغبار بينهم ، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا ، وأنزل الله نصره عليهم ، فانهزم الروم ، وقتل منهم ما لا يحصى ، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى ، وأسر ملك الروم ، أسره بعض غلمان كوهرائين ، أراد قتله ولم يعرفه ، فقال له خادم مع الملك : لا تقتله ، فإنه الملك .

وكان هذا الغلام قد عرضه كوهرائين على نظام الملك ، فرده استحقارا له ، فأثنى عليه كوهرائين ، فقال نظام الملك : عسى أن يأتينا بملك الروم أسيرا ، فكان كذلك .

فلما أسر الغلام الملك أحضره عند كوهرائين ، فقصد السلطان وأخبره بأسر الملك ، فأمر بإحضاره ، فلما أحضر ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاث مقارع بيده وقال له : ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت ؟ فقال : دعني من التوبيخ ، وافعل ما تريد ! فقال السلطان : ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني ؟ فقال : أفعل القبيح . قال له : فما تظن أنني أفعل بك ؟ قال : إما أن تقتلني ، وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام ، والأخرى بعيدة ، وهي العفو ، وقبول الأموال ، واصطناعي نائبا عنك . قال : ما عزمت على غير هذا .

ففداه بألف ألف دينار وخمس مائة ألف دينار ، وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها ، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم ، واستقر الأمر على ذلك ، وأنزله في خيمة ، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها ، فأطلق له جماعة من البطارقة ، [ ص: 225 ] وخلع عليه ( من الغد ) ، فقال ملك الروم : أين جهة الخليفة ؟ فقام وكشف رأسه وأومأ إلى الأرض بالخدمة ، وهادنه السلطان خمسين سنة ، وسيره إلى بلاده ، وسير معه عسكرا أوصلوه إلى مأمنه ، وشيعه السلطان فرسخا .

وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة فملك البلاد ، فلما وصل أرمانوس الملك إلى قلعة دوقية بلغه الخبر ، فلبس الصوف وأظهر الزهد ، وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر من السلطان ، وقال : إن شئت أن تفعل ما استقر ، وإن شئت أمسكت ، فأجابه ميخائيل بإيثار ما استقر ، وطلب وساطته ، وسؤال السلطان في ذلك .

وجمع أرمانوس ما عنده من المال فكان مائتي ألف دينار ، فأرسله إلى السلطان ، وطبق ذهب عليه جواهر بتسعين ألف دينار ، وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك ، ثم إن أرمانوس استولى على أعمال الأرمن وبلادهم . ومدح الشعراء السلطان ، وذكروا هذا الفتح ، فأكثروا .

التالي السابق


الخدمات العلمية