ذكر ابتداء حاله وشيء من أخباره
أما ابتداء حاله ، فكان من أبناء الدهاقين بطوس ، فزال ما كان لأبيه من مال ، وملك ، وتوفيت أمه وهو رضيع ، فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حسبة ، حتى شب ، وتعلم العربية ، وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة ، والاشتغال بالعلم ، فتفقه ، وصار فاضلا ، وسمع الحديث الكثير ، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية ، ولم يزل الدهر يعلو به ، ويخفض حضرا ، وسفرا .
وكان يطوف بلاد خراسان ، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين ، ثم لزم أبا علي بن شاذان متولي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان ، فحسنت حاله معه ، وظهرت كفايته وأمانته ، وصار معروفا عندهم بذلك ، فلما حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب أرسلان به ، وعرفه حاله ، فولاه شغله ، ثم [ ص: 357 ] صار وزيرا له إلى أن ولي السلطنة بعد عمه طغرلبك ، واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة ، وآراء سديدة قادت السلطنة إلى ألب أرسلان ، فلما توفي ألب أرسلان قام بأمر ابنه ملكشاه ، وقد تقدم ذكر هذه الجمل مستوفى مشروحا .
وقيل : إن ابتداء أمره ( أنه كان يكتب للأمير تاجر ، صاحب بلخ ، وكان الأمير ) يصادره في رأس كل سنة ، ويأخذ ما معه ، ويقول له : قد سمنت يا حسن ! ويدفع إليه فرسا ومقرعة ويقول : هذا يكفيك ، فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك ، ومؤيد الملك ، وهرب إلى جغري بك داود ، والد ألب أرسلان ، فوقف فرسه في الطريق ، فقال : اللهم إني أسألك فرسا تخلصني عليه ! فسار غير بعيد ، فلقيه تركماني ، وتحته فرس جواد ، فقال لنظام الملك : انزل عن فرسك ، فنزل عنه ، فأخذه التركماني وأعطاه فرسه ، فركبه ، وقال له : لا تنسني يا حسن ، قال نظام الملك : فقويت نفسي بذلك ، وعلمت أنه ابتداء سعادة . فسار نظام الملك إلى مرو ، ودخل على داود ، فلما رآه أخذ بيده ، وسلمه إلى ولده ألب أرسلان ، وقال له : هذا حسن الطوسي ، فتسلمه ، واتخذه والدا لا تخالفه .
وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو ، فقال لداود : هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي ، فقال له داود : حديثك مع محمد ، يعني ألب أرسلان ، ( فكان اسمه محمدا ) ، فلم يتجاسر تاجر على خطابه ، فتركه وعاد .
وأما أخباره ، فإنه كان عالما ، دينا ، جوادا عادلا ، حليما كثير الصفح عن المذنبين ، طويل الصمت ، كان مجلسه عامرا بالقراء ، والفقهاء ، وأئمة المسلمين ، وأهل الخير والصلاح ، وأمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد ، وأجرى لها الجرايات العظيمة ، وأملى الحديث بالبلاد : ببغداذ وخراسان وغيرهما ، وكان يقول :
[ ص: 358 ] إني لست من أهل هذا الشأن - لما تولاه - ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - .
وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه ، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة ، وكان إذا غفل المؤذن ، ودخل الوقت يأمره بالأذان ، وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات ، ولزوم الصلوات .
وأسقط المكوس ، والضرائب ، وأزال لعن الأشعرية من المنابر ، وكان قد حسن للسلطان الوزير عميد الملك الكندري طغرلبك التقدم بلعن الرافضة ، فأمره بذلك ، فأضاف إليهم الأشعرية ، ولعن الجميع ، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم ، مثل ، إمام الحرمين ، وغيرهما ، فلما ولي وأبي القاسم القشيري ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه ، وأعاد العلماء إلى أوطانهم .
وكان نظام الملك إذا دخل عليه ، الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني ، يقوم لهما ، ويجلس في مسنده ، كما هو ، وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم ( إليه ، ويجلسه في مكانه ) ، ويجلس هو بين يديه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن هذين وأمثالهما إذا دخلوا علي يقولون لي : أنت كذا وكذا ، يثنون علي بما ( ليس في ) ، فيزيدني كلامهم عجبا وتيها ، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي ، وما أنا فيه من الظلم ، فتنكسر نفسي لذلك ، وأرجع عن كثير مما أنا فيه .
وقال نظام الملك :
كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة ، ومسجد أنفرد فيه لعبادة ربي ، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها ، ( ومسجد [ ص: 359 ] أعبد الله فيه ) ، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم ، ومسجد أعبد الله فيه .
وقيل : كان ليلة يأكل الطعام ، وبجانبه أخوه أبو القاسم ، وبالجانب الآخر عميد خراسان ، وإلى جانب العميد إنسان فقير ، مقطوع اليد ، فنظر نظام الملك ، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع ، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر ، وقرب المقطوع إليه فأكل معه .
وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ، ويقربهم إليه ، ويدنيهم . وأخباره مشهورة كثيرة ، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد .