ذكر ابن عمار بغداذ مستنفرا قدوم
في هذه السنة ، في شهر رمضان ، ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار ، صاحب طرابلس الشام ، إلى بغداذ ، قاصدا باب السلطان محمد ، مستنفرا على الفرنج ، طالبا تسيير العساكر لإزاحتهم ، والذي حثه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس ، على ما ذكرناه ، ضاقت عليه الأقوات وقلت ، واشتد الأمر عليه ، وعلى أهل البلد ، فمن الله عليهم ، سنة خمسمائة ، بميرة في البحر من جزيرة قبرس ، وأنطاكية ، وجزائر البنادقة ، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد ، بعد أن كانوا استسلموا .
فلما بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كل مخالف رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به ، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب ، وأمر بالمقام بها ، ورتب معه الأجناد برا وبحرا ، وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفا ، وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه ، بحيث إن ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك ، وسار إلى دمشق ، فأظهر ابن عمه الخلاف له ، والعصيان عليه ، ونادى بشعار المصريين ، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه ، وحمله إلى حصن الخوابي ، ففعلوا ما أمرهم .
وكان ابن عمار قد استصحب معه الهدايا ما لم يوجد عند ملك مثله من الأعلاق النفيسة ، والأشياء الغريبة ، والخيل الرائقة ، فلما وصلها لقيه عسكرها ، ، وخيم على ظاهر البلد ، وسأله وطغتكين أتابك الدخول إليه ، فدخل يوما واحدا إلى الطعام ، وأدخله حمامه ، وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيعه . طغتكين
[ ص: 559 ] فلما وصل إلى بغداذ أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه ، وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها ، فلما نزل إليها قعد بين يدي موضع السلطان ، فقال له من بها من خواص السلطان : قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان ، فلما دخل على السلطان أجلسه ، وأكرمه ، وأقبل عليه بحديثه .
وسير الخليفة خواصه ، وجماعة أرباب المناصب ، فلقوه ، وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة ، وكذلك أيضا فعل السلطان ، وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله ، وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا ، ولأجر الآخرة أكبر .
ولما اجتمع بالسلطان قدم هديته ، وسأل السلطان عن حاله ، وما يعانيه في مجاهدة الكفار ، ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم ، فذكر له حاله ، وقوة عدوه ، وطول حصره ، وطلب النجدة ، وضمن أنه إذا سيرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه ، فوعده السلطان بذلك ، وحضر دار الخلافة ، وذكر أيضا نحوا مما ذكره عند السلطان ، وحمل هدية جميلة نفيسة ، وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداذ في شوال ، فأحضره عنده بالنهروان ، وقد تقدم إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين ليسير معه العساكر التي سيرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال جاولي سقاوو ، ليمضوا معه إلى الشام ، وخلع عليه السلطان خلعا نفيسة ، وأعطاه شيئا كثيرا ، وودعه ، وسار ومعه الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعا ، وكان ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى .
ثم إن فخر الملك بن عمار عاد إلى دمشق منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسمائة ، فأقام بها أياما ، وتوجه منها مع عسكر من دمشق إلى جبلة ، فدخلها وأطاعه أهلها .
[ ص: 560 ] وأما أهل طرابلس ، فإنهم راسلوا الأفضل أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه واليا يكون عندهم ، ومعه الميرة في البحر ، فسير إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليا ، ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار ، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه ، وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك ، وحمل الجميع إلى مصر في البحر .