في هذه السنة سار الفرنج من بلادهم إلى نواحي حلب ، فملكوا بزاعة وغيرها ، وخربوا بلد حلب ونازلوها ، ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهرا واحدا ، وخافهم أهلها خوفا شديدا ، ولو مكنوا من القتال لم يبق بها أحد ، لكنهم منعوا من ذلك ، وصانع الفرنج أهل حلب على أن يقاسموهم على أملاكهم التي بباب حلب . فأرسل أهل البلد إلى بغداذ يستغيثون ، ويطلبون النجدة ، فلم يغاثوا .
وكان الأمير ، صاحب إيلغازي حلب ، ببلد ماردين يجمع العساكر والمتطوعة للغزاة ، فاجتمع عليه نحو عشرين ألفا ، وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي ، والأمير طغان أرسلان بن المكر ، صاحب بدليس وأرزن ، وسار بهم إلى الشام ، عازما على قتال الفرنج .
فلما علم الفرنج قوة عزمهم على لقائهم ، وكانوا ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ، ساروا فنزلوا قريبا من الأثارب ، بموضع يقال له تل عفرين ، بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات ، وفي هذا الموضع قتل شرف الدولة مسلم بن قريش .
وظن الفرنج أن أحدا لا يسلك إليهم لضيق الطريق ، فأخلدوا إلى المطاولة وكانت عادة لهم ، إذا رأوا قوة من المسلمين ، وراسلوا يقولون له : لا تتعب نفسك بالمسير إلينا ، فنحن واصلون إليك ، فأعلم أصحابه بما قالوه ، واستشارهم فيما يفعل ، فأشاروا بالركوب من وقته ، وقصدهم ففعل ذلك ، وسار إليهم ، ودخل الناس من الطرق الثلاثة ، ولم تعتقد إيلغازي الفرنج أن أحدا يقدم عليهم ، لصعوبة المسلك إليهم ، فلم [ ص: 643 ] يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيتهم ، فحمل الفرنج حملة منكرة ، فولوا منهزمين ، فلقوا باقي العسكر متتابعة ، فعادوا معهم ، وجرى بينهم حرب شديدة ، وأحاطوا بالفرنج من جميع جهاتهم ، وأخذهم السيف من سائر نواحيهم ، فلم يفلت منهم غير نفر يسير ، وقتل الجميع ، وأسروا .
وكان في جملة الأسرى نيف وسبعون فارسا من مقدميهم ، وحملوا إلى حلب ، فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار ، فلم يقبل منهم ، وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة .
وأما سيرجال ، صاحب أنطاكية ، فإنه قتل وحمل رأسه ، وكانت الوقعة منتصف شهر ربيع الأول ، فمما مدح به في هذه الوقعة قول إيلغازي العظيمي :
قل ما تشاء ، فقولك المقبول وعليك بعد الخالق التعويل واستبشر القرآن حين نصرته
وبكى لفقد رجاله الإنجيل
ثم تجمع من سلم من المعركة مع غيرهم ، فلقيهم أيضا ، فهزمهم ، وفتح منهم حصن إيلغازي الأثارب ، وزردنا ، وعاد إلى حلب ، وقرر أمرها ، وأصلح حالها ، ثم عبر الفرات إلى ماردين .