ذكر المسترشد بالله والسلطان محمود الاختلاف الواقع بين
كان قد جرى بين يرنقش الزكوي ، شحنة بغداذ ، وبين نواب الخليفة المسترشد بالله نفرة تهدده الخليفة فيها ، فخافه على نفسه ، فسار عن بغداذ إلى السلطان محمود في رجب من هذه السنة ، وشكا إليه ، وحذره جانب الخليفة ، وأعلمه أنه قد قاد العساكر ، ولقي الحروب ، وقويت نفسه ، ومتى لم تعاجله بقصد العراق ودخول بغداذ ، ازداد قوة وجمعا ، ومنعه عنه ، وحينئذ يتعذر عليه ما هو الآن بيده .
فتوجه السلطان نحو العراق ، فأرسل إليه الخليفة يعرفه ما هي البلاد وأهلها عليه من الضعف والوهن ، بسبب دبيس ، وإفساد عسكره فيها ، وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات ، لهرب الأكرة عن بلادهم ، ويطلب منه أن يتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح حال البلاد ثم يعود إليها ، فلا مانع له عنها ، وبذل له على ذلك مالا كثيرا .
فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوي عنده ما قرره الزكوي ، وأبى أن يجيب إلى التأخر ، وصمم العزم وسار إليها مجدا . فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وحرمه [ ص: 706 ] ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة ، مظهرا للغضب والانتزاح عن بغداذ إن قصدها السلطان ، فلما خرج من داره بكى الناس جميعهم بكاء عظيما لم يشاهد مثله . فلما علم السلطان ذلك اشتد عليه ، وبلغ منه كل مبلغ ، فأرسل يستعطف الخليفة ، ويسأله العود إلى داره ، فأعاد الجواب أنه لا بد من عودك هذه الدفعة ، فإن الناس هلكى بشدة الغلاء ، وخراب البلاد ، وأنه لا يرى في دينه أن يزداد ما بهم ، وهو يشاهدهم ، فإن عاد السلطان ، وإلا رحل هو عن العراق لئلا يشاهد ما يلقى الناس بمجيء العساكر .
فغضب السلطان لقوله ، ورحل نحو بغداذ ، وأقام الخليفة بالجانب الغربي ، فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس ، وصلى بهم ، فبكى الناس لخطبته ، وأرسل عفيفا الخادم ، وهو من خواصه ، في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان ، فأرسل السلطان إليه ، وكان له حينئذ عماد الدين زنكي بن آقسنقر البصرة ، وقد فارق البرسقي ، واتصل بالسلطان ، فأقطعه البصرة .
فلما وصل عفيف إلى واسط سار إليه عماد الدين ، فنزل بالجانب الشرقي ، وكان عفيف بالجانب الغربي ، فأرسل إليه عماد الدين يحذره القتال ، ويأمره بالانتزاح عنهم ، فأبى ولم يفعل ، فعبر إليه عماد الدين ، واقتتلوا ، فانهزم عسكر عفيف ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأسر مثلهم ، وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما .
ثم إن الخليفة جمع السفن جميعها إليه ، وسد أبواب دار الخلافة سوى باب النوبي ، وأمر حاجب الباب بالمقام فيه لحفظ الدار ، ولم يبق من حواشي الخليفة بالجانب الشرقي سواه . ابن الصاحب
ووصل السلطان إلى بغداذ في العشرين من ذي الحجة ، ونزل بباب الشماسية ، ودخل بعض عسكره إلى بغداذ ونزلوا في دور الناس ، فشكا الناس ذلك إلى السلطان ، فأمر بإخراجهم ، وبقي فيها من له دار ، وبقي السلطان يراسل الخليفة بالعود ، ويطلب الصلح ، وهو يمتنع .
وكان يجري بين العسكرين مناوشة ، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطان أفحش سب . ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة ، ونهبوا التاج ، [ ص: 707 ] وحجر الخليفة ، أول المحرم سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ، وضج أهل بغداذ من ذلك ، فاجتمعوا ونادوا الغزاة ، فأقبلوا من كل ناحية ، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه ، والوزير بين يديه ، وأمر بضرب الكوسات والبوقات ، ونادى بأعلى صوته : يا آل هاشم ! وأمر بتقديم السفن ، ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة ، وكان له في الدار ألف رجل مختفين في السراديب ، فظهروا ، وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب ، فأسر منهم جماعة من الأمراء ، ونهب العامة دار وزير السلطان ، ودور جماعة من الأمراء ، ودار عزيز الدين المستوفي ، ودار الحكيم أوحد الزمان الطبيب ، وقتل منهم خلق كثير في الدروب .
ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي ، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداذ والسواد ، وأمر بحفر الخنادق ، فحفرت بالليل ، وحفظوا بغداذ من عسكر السلطان ، ووقع الغلاء عند العسكر ، واشتد الأمر عليهم ، وكان القتال كل يوم عليهم عند أبواب البلد وعلى شاطئ دجلة ، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبسوا عسكر السلطان ، فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي ، صاحب إربل ، وخرج كأنه يريد القتال ، فالتحق هو وعسكره بالسلطان .
وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يحضر هو بنفسه ، ومعه المقاتلة في السفن ، وعلى الدواب في البر ، فجمع كل سفينة في البصرة إلى بغداذ ، وشحنها بالرجال المقاتلة ، وأكثر من السلاح ، وأصعد ، فلما قارب بغداذ أمر كل من معه في السفن وفي البر بلبس السلاح ، وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة ، فسارت السفن في الماء ، والعسكر في البر على شاطئ دجلة قد انتشروا وملأوا الأرض برا وبحرا ، فرأى الناس منظرا عجيبا ، كبر في أعينهم ، وملأ صدورهم ، وركب السلطان والعسكر إلى لقائهم ، فنظروا إلى ما لم يروا مثله ، وعظم عماد الدين في أعينهم ، وعزم السلطان على قتال بغداذ حينئذ ، والجد في ذلك في البر والماء . فلما رأى الإمام المسترشد بالله الأمر على هذه الصورة ، وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده ، أجاب إلى الصلح ، وترددت الرسل بينهما ، فاصطلحا ، واعتذر السلطان مما جرى ، وكان حليما يسمع سبه بأذنه فلا يعاقب عليه ، وعفا عن أهل بغداذ جميعهم .
وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداذ ، فلم يفعل ، وقال : لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا . وأقام ببغداذ إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ، وحمل الخليفة من المال إليه كما استقرت القاعدة عليه ، وأهدى له [ ص: 708 ] سلاحا وخيلا وغير ذلك ، فمرض السلطان ببغداذ ، فأشار عليه الأطباء بمفارقتها ، فرحل إلى همذان ، فلما وصلها عوفي .