ذكر بعرفات وقتل ابن المقدم الفتنة
في هذه السنة ، يوم عرفة ، قتل شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم بعرفات ، وهو أكبر الأمراء الصلاحية ، وقد تقدم من ذكره ما فيه كفاية .
وسبب قتله أنه لما فتح المسلمون البيت المقدس طلب إذنا من صلاح الدين ليحج ويحرم من القدس ، ويجمع في سنة بين الجهاد والحج وزيارة الخليل ، عليه السلام ، وما بالشام من مشاهد الأنبياء ، وبين زيارة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أجمعين ، فأذن له .
وكان قد اجتمع تلك السنة من الحجاج بالشام الخلق العظيم من البلاد : العراق ، والموصل ، وديار بكر ، والجزيرة ، وخلاط ، وبلاد الروم ومصر وغيرها ، ليجمعوا بين زيارة البيت المقدس ومكة ، فجعل ابن المقدم أميرا عليهم فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين ، ووقفوا في تلك المشاعر ، وأدوا الواجب والسنة .
فلما كان عشية عرفة تجهز هو وأصحابه ليسيروا من عرفات ، فأمر بضرب كوساته التي هي أمارة الرحيل ، فضربها أصحابه ، فأرسل إليه أمير الحاج العراقي ، [ ص: 44 ] وهو مجير الدين طاش تكين ، ينهاه عن الإفاضة من عرفات قبله ، ويأمره بكف أصحابه عن ضرب كوساته .
فأرسل إليه : إني ليس لي معك تعلق ، أنت أمير الحاج العراقي ، وأنا أمير الحاج الشامي ، وكل منا يفعل ما يراه ويختاره ، وسار ولم يقف ، ولم يسمع قوله .
فلما رأى طاش تكين إصراره على مخالفته ركب في أصحابه وأجناده ، وتبعه من غوغاء الحاج العراقي وبطاطيهم ، وطماعتهم ، العالم الكثير ، والجم الغفير ، وقصدوا حاج الشام مهولين عليهم .
فلما قربوا منهم خرج الأمر من الضبط ، وعجزوا عن تلافيه ، فهجم طماعة العراق على حاج الشام وفتكوا فيهم ، وقتلوا جماعة ونهبت أموالهم وسبيت جماعة من نسائهم ، إلا أنهن رددن عليهم .
وجرح ابن المقدم عدة جراحات ، وكان يكف أصحابه عن القتال ، ولو أذن لهم لانتصف منهم وزاد ، لكنه أخذه طاش تكين إلى خيمته ، وأنزله عنده ليمرضه ويستدرك الفارط في حقه ، وساروا تلك الليلة من عرفات ، فلما كان الغد مات بمنى ، ودفن بمقبرة المعلى ، ورزق الشهادة بعد الجهاد ، وشهود فتح البيت المقدس ، رحمه الله تعالى .