ذكر أتابك عز الدين إلى بلاد العادل ، وعوده بسبب مرضه مسير
لما بلغ أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي - صاحب الموصل - وفاة صلاح الدين جمع أهل الرأي من أصحابه وفيهم مجاهد الدين قايماز ، كبير دولته ، والمقدم على كل من فيها ، وهو نائبه فيهم ، واستشارهم فيما يفعل : فسكتوا .
فقال له بعضهم - وهو أخي - : أنا أرى أنك تخرج مسرعا جريدة فيمن خف من أصحابك وحلقتك الخاص ، وتتقدم إلى الباقين باللحاق بك ، وتعطي من هو محتاج إلى شيء ما يتجهز به ما يخرجه ، ويلحق بك إلى مجد الدين أبو السعادات المبارك نصيبين .
وتكاتب أصحاب الأطراف مثل مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل ، وسنجر شاه ابن أخيك صاحب جزيرة ابن عمر ، وأخيك عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين ، تعرفهم أنك قد سرت ، وتطلب منهم المساعدة ، وتبذل لهم اليمين على ما يلتمسونه ، فمتى رأوك قد سرت خافوك ، وإن أجابك أخوك صاحب سنجار ونصيبين إلى الموافقة ، وإلا بدأت بنصيبين فأخذتها ، وتركت فيها من يحفظها ، ثم سرت نحو الخابور ، وهو له أيضا فأقطعه ، وتركت عسكره مقابل أخيك يمنعه من الحركة إن أرادها ، أو قصدت الرقة فلا تمنع نفسها .
وتأتي حران الرها ، فليس فيها من يحفظها لا صاحب ولا عسكر - ولا ذخيرة ، فإن العادل أخذهما من ابن تقي الدين ولم يقم فيهما ليصلح حالهما .
وكان القوم يتكلون على قوتهم ، فلم يظنوا هذا الحادث ، فإذا فرغت من ذلك الطرف عدت إلى من امتنع من طاعتك فقاتلته ليس وراءك ما تخاف عليه فإن بلدك عظيم لا يبالي بكل من وراءك .
فقال مجاهد الدين : المصلحة أننا نكاتب أصحاب الأطراف نأخذ رأيهم في [ ص: 122 ] الحركة نستميلهم ، فقال له أخي : إن أشاروا بترك الحركة تقبلون منهم ؟ قال : لا ! قال : إنهم لا يشيرون إلا بتركها ، لأنهم لا يريدون أن يقوى هذا السلطان خوفا منه ، وكأني بهم يغالطونكم ما دامت البلاد الجزرية فارغة من صاحب عسكر ، فإذا جاء إليها من يحفظها جاهروكم بالعداوة .
ولم يمكنه أكثر من هذا القول خوفا من مجاهد الدين ، حيث رأى ميله إلى ما تكلم به ، فانفصلوا على أن يكاتبوا أصحاب الأطراف ، فكاتبوهم فكل أشار بترك الحركة إلى أن ينظر ما يكون من أولاد صلاح الدين وعمهم فتثبطوا .
ثم إن مجاهد الدين كرر المراسلات إلى عماد الدين ، صاحب سنجار ، يعده ويستميله ، فبينما هم على ذلك إذ جاءهم كتاب الملك العادل من المناخ بالقرب من دمشق ، قد سار عن دمشق إلى بلاده ، يذكر فيه موت أخيه ، وأن البلاد قد استقرت لولده الملك الأفضل ، والناس متفقون على طاعته ، وأنه هو المدبر لدولة الأفضل ، وقد سيره في عسكر جم ، كثير العدد ، لقصد ماردين لما بلغه أن صاحبها تعرض إلى بعض القرى التي له ، وذكر من هذا النحو شيئا كثيرا ، فظنوه حقا وأن قوله لا ريب فيه ، ففتروا عن الحركة ، وذلك الرأي .
فسيروا الجواسيس ، فأتتهم الأخبار بأنه في ظاهر حران نحو من مائتي خيمة لا غير ، فعادوا فتحركوا ، فإلى أن تقررت القواعد بينهم وبين صاحب سنجار ، وصلته العساكر الشامية التي سيرها الأفضل وغيره إلى العادل ، فامتنع بها وسار أتابك عز الدين عن الموصل إلى نصيبين ، واجتمع هو وأخوه عماد الدين بها ، وساروا على سنجار نحو الرها ، وكان العادل قد عسكر قريبا منها بمرج الريحان ، فخافهم خوفا عظيما .
فلما وصل أتابك عز الدين إلى تل موزن مرض بالإسهال ، فأقام عدة أيام فضعف عن الحركة ، وكثر مجيء الدم منه فخاف الهلاك ، فترك العساكر مع أخيه عماد الدين ، وعاد جريدة في مائتي فارس ، ومعه مجاهد الدين ، وأخي - مجد الدين - ، فلما وصل إلى دنيسر استولى عليه الضعف ، فأحضر أخي وكتب وصية ، ثم سار فدخل الموصل ، وهو مريض أول رجب .