ذكر ملك  بدر الدين  قلعتي العمادية وهروز     . 
في هذه السنة ملك  بدر الدين  قلعة العمادية  من أعمال الموصل  ، وقد تقدم ذكر عصيان أهلها عليه سنة خمس عشرة وستمائة ، وتسليمها إلى  عماد الدين زنكي  ، ثم عودهم إلى طاعة  بدر الدين  ، وخلافهم على  عماد الدين  ، فلما عادوا إلى  بدر الدين  أحسن إليهم ، وأعطاهم الإقطاع الكثير ، وملكهم القرى ، ووصلهم بالأموال الجزيلة والخلع السنية ، فبقوا كذلك مدة يسيرة . 
ثم شرعوا يراسلون  عماد الدين زنكي  ،  ومظفر الدين  صاحب إربل  ،   وشهاب الدين غازي بن العادل  لما كان بخلاط  ، ويعدون كلا منهم بالانحياز إليه والطاعة له ، وأظهروا من المخالفة  لبدر الدين  ما كانوا يبطنونه ، فكانوا لا يمكنون أن يقيم عندهم من أصحاب  بدر الدين  إلا من يريدونه ، ويمنعون من كرهوه ، فطال الأمر ، وهو   [ ص: 404 ] يحتمل فعلهم ويداريهم ، وهم لا يزدادون إلا طمعا وخروجا عن الطاعة . 
وكانوا جماعة فاختلفوا ، فقوي بعضهم ، وهم أولاد  خواجه إبراهيم  وأخوه ومن معهم على الباقين ، فأخرجوهم عن القلعة ، وغلبوا عليها ، وأصروا على ما كانوا عليه من النفاق . 
فلما كان هذه السنة ، سار  بدر الدين  إليهم في عساكره ، فأتاهم بغتة ، فحصرهم وضيق عليهم ، وقطع الميرة عنهم ، وأقام بنفسه عليهم ، وجعل قطعة من الجيش على قلعة هروز  يحصرونها ، وهي من أمنع الحصون وأحصنها ، لا يوجد مثلها . وكان أهلها أيضا قد سلكوا طريق أهل العمادية   من عصيان ، وطاعة ومخادعة ، فأتاهم العسكر وحصروهم وهم في قلة من الذخيرة ، فحصروها أياما ، ففني ما في القلعة ، فاضطر أهلها إلى التسليم ، فسلموها ونزلوا منها . 
وعاد العسكر إلى العمادية  ، فأقاموا عليها مع  بدر الدين  ، فبقي  بدر الدين  بعد أخذ هروز  يسيرا ، وعاد إلى الموصل  ، وترك العسكر بحاله مع ابنه  أمين الدين لؤلؤ  ، فبقي الحصار إلى أول ذي القعدة ، فأرسلوا يذعنون بالطاعة ، ويطلبون العوض عنها ليسلموها ، فاستقرت القواعد على العوض من قلعة يحتمون فيها ، وأقطاع ومال وغير ذلك ، فأجابهم  بدر الدين  إلى ما طلبوا ، وحضر نوابهم ليحلفوا  بدر الدين     . 
فبينما هو يريد أن يحلف لهم وقد أحضر من يشهد اليمين ، إذ قد وصل طائر من العمادية  وعلى جناحه رقعة من  أمين الدين لؤلؤ  ، يخبر أنه قد ملك العمادية قهرا وعنوة ، وأسر بني خواجه  الذين كانوا تغلبوا عليه ، فامتنع  بدر الدين  من اليمين . 
وأما سبب غلبة  أمين الدين  عليها ، فإنه كان قد ولاه  بدر الدين  عليها لما عاد أهلها إلى طاعته ، فبقي فيها مدة ، وأحسن فيهم ، واستمال جماعة منهم ليتقوى بهم على الحرب للذين عصوا أولا ، فنمى الخبر إليهم ، فأساءوا مجاورته ، واستقالوا من ولايته عليهم ، ففارقهم إلىالموصل    . 
وكان أولئك الذين استمالهم يكاتبونه ويراسلونه ، فلما حصرهم كانوا أيضا يكاتبونه في النشاب يخبرونه بكل ما يفعله أولاد  خواجه  من إنفاذ رسول وغير ذلك ، وبما عندهم من الذخائر وغيرها ، إلا أنهم لم يكونوا من الكثرة إلى حد أنهم يقهرون أولئك . 
فلما كان الآن واستقرت القواعد من التسليم لم يذكر أولاد  خواجه  أحدا من جند   [ ص: 405 ] القلعة في نسخة اليمين بمال ، ولا غيره من أمان وإقطاع ، فسخطوا هذه الحال ، وقالوا لهم : قد حلفتم لأنفسكم بالحصون والقرى والمال ، ونحن قد خربت بيوتنا لأجلكم ، فلم تذكرونا ، فأهانوهم ولم يلتفتوا إليهم ، فحضر عند  أمين الدين  رجلان منهم ليلا ، وطلبوا منه أن يرسل إليهم جمعا يصعدونهم إلى القلعة ، ويثبون بأولئك ويأخذونهم ، فامتنع وقال : أخاف أن لا يتم هذا الأمر ، ويفسد علينا كل ما فعلناه . فقالوا : نحن نقبض عليهم غدا بكرة ، وتكون أنت والعسكر على ظهر ، فإذا سمعتم النداء باسم  بدر الدين  وشعاره ، تصعدون إلينا ، فأجابهم إلى ذلك . 
وركب بنفسه بكرة هو والعسكر على العادة ، وأما أولئك فإنهم اجتمعوا ، وقبضوا على أولاد  خواجه  ومن معهم ، ونادوا بشعار  بدر الدين  ، فبينما العسكر قيام إذا الصوت من القلعة باسم  بدر الدين  ، فصعدوا إليها وملكوها ، وتسلم  أمين الدين  أولاد  خواجه  فحبسهم ، وكتب الرقعة على جناح الطائر بالحال ، وملكوا القلعة صفوا عفوا بغير عوض ، وكان يريد [ أن ] يغرم مالا جليلا ، وأقطاعا كثيرة ، وحصنا منيعا ، فتوفر الجميع عليه ، وأخذ منهم كل ما احتقبوه وادخروه ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له . 
				
						
						
