لما قدم الجارود بن المعلى العبدي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفقه رده إلى قومه عبد القيس ، فكان فيهم . فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - كان المنذر بن ساوى العبدي مريضا ، [ ص: 222 ] فمات بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل . فلما مات المنذر بن ساوى ارتد بعده أهل البحرين ، فأما بكر فتمت على ردتها ، وأما عبد القيس فإنهم جمعهم الجارود ، وكان بلغه أنهم قالوا : لو كان محمد نبيا لم يمت . فلما اجتمعوا إليه قال لهم : أتعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى ؟ قالوا : نعم . قال : فما فعلوا ؟ قالوا : ماتوا . قال : فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد مات كما ماتوا ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فأسلموا وثبتوا على إسلامهم .
وحصرهم أصحاب المنذر بعده حتى استنقذهم . واجتمعت العلاء بن الحضرمي ربيعة بالبحرين على الردة إلا الجارود ومن تبعه ، وقالوا : نرد الملك في المنذر بن النعمان بن المنذر ، وكان يسمى الغرور . فلما أسلم كان يقول : أنا المغرور ، ولست بالغرور .
وخرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة في بكر بن وائل ، فاجتمع إليه من غير المرتدين ممن لم يزل مشركا ، حتى نزل القطيف وهجر ، واستغووا الخط ومن بها منالزط والسبابجة ، وبعث بعثا إلى دارين ، وبعث إلى جواثا فحصر المسلمين ، فاشتد الحصر على من بها ، فقال عبد الله بن حذف ، وقد قتلهم الجوع :
ألا أبلغ أبا بكر رسولا وفتيان المدينة أجمعينا فهل لكم إلى قوم كرام
قعود في جواثا محصرينا كأن دماءهم في كل فج
شعاع الشمس يغشى الناظرينا توكلنا على الرحمن إنا
وجدنا النصر للمتوكلينا
فلما صلوا الصبح دعا العلاء ودعوا معه ، فلمع لهم الماء ، فمشوا إليه وشربوا واغتسلوا . فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تجمع من كل وجه ، فأناخت إليهم فسقوها . وكان فيهم ، فلما ساروا عن ذلك المكان قال أبو هريرة لمنجاب بن راشد : كيف علمك بموضع الماء ؟ قال : عارف به . فقال له : كن معي حتى تقيمني عليه . قال : فرجعت به إلى ذلك المكان ، فلم نجد إلا غدير الماء ، فقلت له : والله لولا الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان ، وما رأيت بهذا المكان ماء قبل اليوم ، وإذا إداوة مملوة ماء . فقال : هذا والله المكان ، ولهذا رجعت بك ، وملأت إداوتي ثم وضعتها على شفير الغدير وقلت : إن كان منا من المن عرفته ، وإن كان عينا عرفته ، فإذا من من المن . فحمد الله . أبو هريرة
ثم ساروا فنزلوا بهجر ، وأرسل العلاء إلى الجارود يأمره أن ينزل بعبد القيس على الحطم مما يليه ، وسار هو فيمن معه حتى نزل عليه مما يلي هجر ، فاجتمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين ، واجتمع المسلمون إلى العلاء ، وخندق المسلمون على أنفسهم والمشركون ، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم ، فكانوا كذلك شهرا . فبينا هم كذلك سمع المسلمون ضوضاء هزيمة أو قتال ، فقال العلاء : من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال عبد الله بن حذف : أنا ، فخرج حتى دنا من خندقهم ، فأخذوه . وكانت أمه عجلية ، فجعل ينادي : يا أبجراه ! فجاء أبجر بن بجير فعرفه ، فقال : ما شأنك ؟ فقال : علام أقبل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وغيرهما ؟ فخلصه ، فقال له : والله إني لأظنك بئس ابن أخت أتيت الليلة أخوالك . فقال : دعني من هذا وأطعمني ؛ فقد مت جوعا . فقرب له طعاما فأكل ، ثم قال : زودني واحملني ، يقول هذا لرجل قد غلب عليه السكر ، فحمله على بعير وزوده وجوزه ، فدخل عسكر المسلمين فأخبرهم أن القوم سكارى ، فخرج المسلمون عليهم ، فوضعوا فيهم السيف كيف شاءوا ، وهرب الكفار ، [ ص: 224 ] فمن بين مرتد وناج ومقتول ومأسور ، واستولى المسلمون على العسكر ، ولم يفلت رجل إلا بما عليه .
فأما أبجر فأفلت ، وأما الحطم فقتل ، قتله قيس بن عاصم بعد أن قطع عفيف بن المنذر التيمي رجله . وطلبهم المسلمون ، فأسر عفيف المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور فأسلم . وأصبح العلاء فقسم الأنفال ، ونفل رجالا من أهل البلاء ثيابا ، فأعطى ثمامة بن أثال الحنفي خميصة ذات أعلام كانت للحطم يباهي بها . فلما رجع ثمامة بعد فتح دارين رآها بنو قيس بن ثعلبة فقالوا له : أنت قتلت الحطم ! فقال : لم أقتله ، ولكني اشتريتها من المغنم . فوثبوا عليه فقتلوه .
وقصد عظم الفلال إلى دارين ، فركبوا إليها السفن ، ولحق الباقون ببلاد قومهم ، فكتب العلاء إلى من ثبت على إسلامه من بكر بن وائل ، منهم عتيبة بن النهاس والمثنى بن حارثة وغيرهما ، يأمرهم بالقعود للمنهزمين والمرتدين بكل طريق ، ففعلوا ، وجاءت رسلهم إلى العلاء بذلك ، فأمر أن يؤتى من وراء ظهره ، فندب حينئذ الناس إلى دارين وقال لهم : قد أراكم الله من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر ، فانهضوا إلى عدوكم واستعرضوا البحر .
وارتحل وارتحلوا حتى اقتحم البحر على الخيل والإبل والحمير وغير ذلك ، وفيهم الراجل ، ودعا ودعوا . وكان من دعائهم : يا أرحم الراحمين ، يا كريم ، يا حليم ، يا صمد ، يا حي ، يا محيي الموتى ، يا حي يا قيوم ، لا إله إلا أنت يا ربنا ! فاجتازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل ، وبين الساحل ودارين يوم وليلة لسفن البحر ، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا ، فظفر المسلمون وانهزم المشركون ، وأكثر المسلمون القتل فيهم فما تركوا بها مخبرا وغنموا وسبوا ، فلما فرغوا رجعوا حتى عبروا ، وضرب الإسلام فيها بجرانه .
وكتب العلاء إلى أبي بكر يعرفه هزيمة المرتدين وقتل الحطم . وكان مع المسلمين راهب من أهل هجر ، فأسلم ، فقيل له : ما حملك على الإسلام ؟ قال : ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها : فيض في الرمال ، وتمهيد أثباج البحر ، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء سحرا : اللهم أنت الرحمن الرحيم ، لا إله غيرك ، والبديع فليس قبلك شيء ، والدائم غير الغافل ، الحي الذي لا يموت ، وخالق ما يرى وما لا يرى ، وكل [ ص: 225 ] يوم أنت في شأن ، علمت كل شيء بغير تعلم - فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على حق ، فكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعون هذا منه بعد .
( عتيبة بعد العين تاء معجمة باثنتين من فوقها ، وياء تحتها نقطتان ، ثم باء موحدة . وحارثة بحاء مهملة ، وثاء مثلثة ) .