قيل : وفي رجب من هذه السنة بويع يزيد بالخلافة بعد موت أبيه ، على ما سبق من الخلاف فيه ، فلما تولى كان على المدينة ، وعلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان مكة ، وعلى عمرو بن سعيد بن العاص البصرة ، وعلى عبيد الله بن زياد الكوفة ، ولم يكن النعمان بن بشير ليزيد همة إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته ، فكتب إلى الوليد يخبره بموت معاوية ، وكتابا آخر صغيرا فيه : أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا ، والسلام . فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكبر عليه وبعث إلى فدعاه . مروان بن الحكم
وكان مروان عاملا على المدينة من قبل
[ ص: 128 ] الوليد ، فلما قدمها الوليد كان مروان يختلف إليه متكارها ، فلما رأى الوليد ذلك منه شتمه عند جلسائه ، فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه ولم يزل مصارما له حتى جاء نعي معاوية ، فلما عظم على الوليد هلاكه وما أمر به من بيعة هؤلاء النفر ، استدعى مروان فلما قرأ الكتاب بموت معاوية استرجع وترحم عليه ، واستشاره الوليد كيف يصنع .
قال : أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة ، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم ، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية ، فإنهم إن علموا بموته وثب كل رجل منهم بناحية وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، أما فلا يرى القتال ولا يحب أن يلي على الناس إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوا . ابن عمر
فأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان ، وهو غلام حدث ، إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما ، فوجدهما في المسجد وهما جالسان ، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس فقال : أجيبا الأمير .
فقالا : انصرف ، الآن نأتيه .
وقال ابن الزبير للحسين : ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها ؟ فقال الحسين : أظن أن طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر .
فقال : وأنا ما أظن غيره ، فما تريد أن تصنع ؟ قال الحسين : أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه .
قال : فإني أخافه عليك إذا دخلت .
قال : لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع .
فقام فجمع إليه أصحابه وأهل بيته ثم أقبل على باب الوليد وقال لأصحابه :
إني داخل فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا علي بأجمعكم وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم .
ثم دخل فسلم ، ومروان عنده ، فقال الحسين :
الصلة خير من القطيعة ، ، وقد آن لكما أن تجتمعا ، أصلح الله ذات بينكما ، وجلس ، فأقرأه والصلح خير من الفساد الوليد الكتاب ، ونعى له معاوية ودعاه إلى البيعة ، فاسترجع الحسين وترحم على معاوية وقال : أما البيعة فإن مثلي لا يبايع سرا ولا يجتزأ بها مني سرا ، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحدا .
فقال الوليد ، وكان يحب العافية : انصرف .
فقال له مروان : لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبسه فإن بايع وإلا ضربت عنقه .
فوثب
[ ص: 129 ] عند ذلك الحسين وقال : ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو ؟ كذبت والله ولؤمت ! ثم خرج حتى أتى منزله .
فقال مروان للوليد : عصيتني ، لا والله لا يمكنك من نفسه بمثلها أبدا ، فقال الوليد : وبخ غيرك يا مروان ، والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسينا إن قال لا أبايع ، والله إني لأظن أن امرأ يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة .
قال مروان : قد أصبت . يقول له هذا وهو غير حامد له على رأيه .
وأما ابن الزبير فقال : الآن آتيكم .
ثم أتى داره فكمن فيها ، ثم بعث إليه الوليد فوجده قد جمع أصحابه واحترز ، فألح عليه الوليد وهو يقول : أمهلوني .
فبعث إليه الوليد مواليه ، فشتموه وقالوا له : يا ابن الكاهلية لتأتين الأمير أو ليقتلنك ! فقال لهم : والله لقد استربت لكثرة الإرسال ، فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه .
فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير ، فقال : رحمك الله ، كف عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته وهو يأتيك غدا إن شاء الله تعالى ، فمر رسلك فلينصرفوا عنه .
فبعث إليهم فانصرفوا .
وخرج ابن الزبير من ليلته فأخذ طريق الفرع هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث وسارا نحو مكة ، فسرح الرجال في طلبه فلم يدركوه ، فرجعوا وتشاغلوا به عن الحسين ليلتهم ، ثم أرسل الرجال إلى الحسين فقال لهم : أصبحوا ثم ترون ونرى ، وكانوا يبقون عليه ، فكفوا عنه ، فسار من ليلته :
وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة ، وأخذ معه بنيه وإخوته وبني أخيه وجل أهل بيته إلا فإنه قال له : يا أخي أنت أحب الناس إلي وأعزهم علي ولست أذخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك ، تنح ببيعتك عن محمد ابن الحنفية يزيد وعن الأمصار ما استطعت وابعث رسلك إلى الناس وادعهم إلى نفسك فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك ، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك ، إني أخاف أن تأتي مصرا وجماعة من الناس فيختلفوا
[ ص: 130 ] عليك ، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك ، فيقتتلون فتكون لأول الأسنة ، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلها أهلا .
قال الحسين : فأين أذهب يا أخي ؟ قال : انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فبسبيل ذلك ، وإن نأت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس ، ويفرق لك الرأي ، فإنك أصوب ما يكون رأيا وأحزمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا ، ولا تكون الأمور عليك أبدا أشكل منها حين تستدبرها .
قال : يا أخي قد نصحت وأشفقت ، وأرجو أن يكون رأيك سديدا وموفقا إن شاء الله .
ثم دخل المسجد وهو يتمثل بقول : يزيد بن مفرغ
لا ذعرت السوام في شفق الصب ح مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطى من المهانة ضيما
والمنايا يرصدنني أن أحيدا
ثم إن الوليد أرسل إلى ليبايع فقال : إذا بايع الناس بايعت ، فتركوه وكانوا لا يتخوفونه . ابن عمر
وقيل : إن كان هو ابن عمر وابن عباس بمكة فعادا إلى المدينة ، فلقيهما الحسين وابن الزبير فسألاهما : ما وراءكما ؟ فقالا : موت معاوية وبيعة يزيد . فقال ابن [ ص: 131 ] عمر : لا تفرقا جماعة المسلمين .
وقدم هو وابن عباس المدينة .
فلما بايع الناس بايعا .
قال : ودخل ابن الزبير مكة وعليها ، فلما دخلها قال : أنا عائذ عمرو بن سعيد بالبيت .
ولم يكن يصلي بصلاتهم ولا يفيض بإفاضتهم ، وكان يقف هو وأصحابه ناحية .