ذكر استيلاء عبد الرحمن بن حبيب على إفريقية   
كان  عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع  قد انهزم لما قتل أبوه  وكلثوم بن عياض  سنة اثنتين وعشرين ومائة ، وسار إلى الأندلس  ، وقد ذكرناه ، وأراد أن يتغلب عليها ، فلم يمكنه ذلك ، فلما ولي  حنظلة بن صفوان  إفريقية  ، على ما ذكرناه ، وجه  أبا الخطار  إلى الأندلس  أميرا ، فأيس حينئذ  عبد الرحمن  مما كان يرجوه فعاد إلى إفريقية  وهو خائف من  أبي الخطار  ، وخرج بتونس  من إفريقية  في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وقد ولي   الوليد بن يزيد بن عبد الملك  الخلافة بالشام  ، فدعا الناس إلى نفسه ، فأجابوه ، فسار بهم إلى القيروان  ، فأراد من بها قتاله فمنعهم  حنظلة  ، وكان لا يرى القتال إلا لكافر أو خارجي ، وأرسل إليه  حنظلة  رسالة مع جماعة من أعيان القيروان  رؤساء القبائل يدعوه إلى مراجعة الطاعة ، فقبضه وأخذهم معه إلى القيروان  وقال : إن رمى أحد من أهل القيروان  بحجر قتلت من عندي أجمعين ، فلم يقاتله أحد . فخرج  حنظلة  إلى الشام  ، واستولى  عبد الرحمن  على القيروان  سنة سبع وعشرين ومائة وسائر إفريقية    . 
ولما خرج  حنظلة  إلى الشام  دعا على أهل إفريقية  وعبد الرحمن  ، فاستجيب له فيهم ، فوقع الوباء والطاعون سبع سنين ، لم يفارقهم إلا في أوقات متفرقة ، وثار  بعبد الرحمن  جماعة من العرب والبربر ثم قتل بعد ذلك . 
فممن خرج عليه  عروة بن الوليد الصدفي  واستولى على تونس  ، وقام  ابن عطاف عمران بن عطاف الأزدي  فنزل بطيفاس  ، وثارت البربر  بالجبال ، وخرج عليه  ثابت الصنهاجي  بباجة فأخذها . 
فأحضر  عبد الرحمن  أخاه  إلياس  وجعل معه ستمائة فارس وقال له : سر حتى تجتاز بعسكر  ابن عطاف الأزدي  ، فإذا رآك عسكره فارقهم وسر عنهم كأنك تريد تونس   [ ص: 324 ] إلى قتال  عروة بن الوليد  بها ، فإذا أتيت موضع كذا فقف فيه حتى يأتيك فلان بكتابي فافعل بما فيه . 
فسار  إلياس  ودعا  عبد الرحمن  إنسانا ، وهو الرجل الذي قال لأخيه إلياس عنه ، وأعطاه كتابا وقال له : امض حتى تدخل عسكر  ابن عطاف  ، فإذا أشرف عليهم  إلياس  ورأيتهم يدعون السلاح والخيل ، فإذا فارقهم إلياس ووضعوا السلاح عنهم وأمنوا ، فسر إليه وأوصل كتابي إليه . فمضى الرجل ودخل عسكر  ابن عطاف  ، وقاربهم  إلياس  فتحركوا للركوب ، ثم فارقهم  إلياس  نحو تونس  فسكنوا وقالوا : قد دخل بين فكي أسد ، نحن من هاهنا وأهل تونس  من هناك ، وأمنوا وصمموا العزم على المسير خلفه . فلما أمنوا سار ذلك الرجل إلى  إلياس  فأوصل إليه كتاب أخيه  عبد الرحمن  ، فإذا فيه : إن القوم قد أمنوك فسر إليهم وهم في غفلتهم . فعاد  إلياس  إليهم وهم غارون فلم يلحقوا يلبسون سلاحهم حتى دهمهم فقتلهم ، وقتل  ابن عطاف  أميرهم سنة ثلاثين ومائة ، وأرسل إلى أخيه  عبد الرحمن  يبشره بذلك ، فكتب إليه  عبد الرحمن  يأمره بالمسير إلى أهل تونس  ويقول : إنهم إذا رأوك ظنوك  ابن عطاف  فأمنوك فظفرت بهم . 
فسار إليهم ، فكان كما قال  عبد الرحمن  ، ووصل إليها وصاحبها  عروة بن الوليد  في الحمام ، فلم يلحق يلبس ثيابه حتى غشيه  إلياس  فالتحف بمنشفة ينشف بها بدنه وركب فرسه عريانا وهرب ، فصاح به  إلياس     : يا فارس العرب ! فعاد إليه ، فضربه  إلياس  واحتضنه  عروة  فسقطا إلى الأرض ، وكاد  عروة  يظهر على  إلياس  فأتاه مولى  لإلياس  فقتله واحتز رأسه وسيره إلى  عبد الرحمن     . 
وأقام  إلياس  بتونس  ، وخرج عليه رجلان بطرابلس  اسمهما  عبد الجبار  والحارث  وقتلا من أهل البلد جماعة كثيرة ، فسار إليهم  عبد الرحمن  سنة إحدى وثلاثين ومائة وقاتلهما فقتلا ، وكانا يدينان بمذهب الإباضية  من الخوارج    . 
وجند  عبد الرحمن  في قتال البربر  ، وعمر  عبد الرحمن  سور طرابلس  سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، ثم إنه عاد إلى القيروان  وغزا تلمسان وبها جمع كثير من البربر فظفر بهم ، وذلك سنة خمس وثلاثين ، وسير جيشا إلى صقلية فظفروا وغنموا غنيمة كثيرة ، وبعث جيشا آخر إلى سردانية فغنموا وقتلوا في الروم  ، ودوخ المغرب جميعه ولم ينهزم له عسكر . 
 [ ص: 325 ] وقتل  مروان بن محمد  وزالت دولة بني أمية  وعبد الرحمن  بإفريقية  ، فخطب للخلفاء العباسيين  وأطاع   السفاح     . ثم قدم عليه جماعة من بني أمية  فتزوج هو وإخوته منهم ، وكان فيمن قدم عليه منهم :  العاص  وعبد المؤمن  ابنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وكانت ابنة عمها تحت  إلياس  أخي  عبد الرحمن  ، فبلغ  عبد الرحمن  عنهما السعي في الفساد عليه فقتلهما ، فقالت ابنة عمهما لزوجها  إلياس     : إن أخاك قد قتل أختانك ولم يراقبك فيهم وتهاون بك ، وأنت سيفه الذي يضرب به ، وكلما فتحت له فتحا كتب إلى الخلفاء : إن ابني حبيبا فتحه ، وقد جعل له العهد بعده وعزلك عنه . ولم تزل تغريه به . فتحرك لقولها وأعمل الحيلة على أخيه . 
ثم إن   السفاح  توفي وولي الخلافة بعده  المنصور  فأقر  عبد الرحمن  على إفريقية  ، وأرسل إليه خلعة سوداء أول خلافته فلبسها ، وهي أول سواد دخل إفريقية    . فأرسل إليه  عبد الرحمن  هدية وكتب يقول : إن إفريقية  اليوم إسلامية كلها ، وقد انقطع السبي منها والمال ، فلا تطلب مني مالا . فغضب  المنصور  وأرسل إليه يتهدده ، فخلع  المنصور  بإفريقية  ومزق خلعته وهو على المنبر ، وكان خلع  المنصور  مما أعان أخاه  إلياس  عليه . فاتفق جماعة من وجوه القيروان  معه على أن يقتلوا  عبد الرحمن  ويولوه ويعيد الدعاء  للمنصور     . فبلغ  عبد الرحمن  فأمر أخاه إلياس بالمسير إلى تونس  ، فتجهز ودخل إليه يودعه ومعه أخوه  عبد الوارث  ، فلما دخلا على  عبد الرحمن  قتلاه . ( وكان قتله في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين ومائة ، وكانت إمارته على إفريقية  عشر سنين وسبعة أشهر . 
ولما قتل ) ضبط  إلياس  أبواب الدار ليأخذ ابنه حبيبا ، فلم يظفر به ، وهرب  حبيب  إلى تونس  واجتمع بعمه  عمران بن حبيب  وأخبره بقتل أبيه ، وسار  إلياس  إليهما ، واقتتلوا قتالا يسيرا ، ثم اصطلحوا على أن يكون  لحبيب  قفصة وقسطيلة ونفزاوة ، ويكون  لعمران  تونس    ( وصطفورة  والجزيرة  ، ويكون سائر إفريقية  لإلياس  ، وكان هذا الصلح سنة ثمان وثلاثين ومائة ، فلما اصطلحوا سار  حبيب بن عبد الرحمن  إلى عمله ، ومضى  إلياس  مع أخيه  عمران  إلى تونس  فغدر  بعمران  أخيه وقتله وأخذ تونس    ) وقتل جماعة من   [ ص: 326 ] أشراف العرب وعاد إلى القيروان    . فلما استقر بها بعث بطاعته إلى  المنصور  مع وفد منهم   عبد الرحمن بن زياد بن أنعم  قاضي إفريقية    . 
ثم سار  حبيب  إلى تونس  فملكها ، فسار إليه  إلياس  واقتتلوا قتالا ضعيفا ، فلما جنهم الليل ترك  حبيب  خيامه وسار جريدة إلى القيروان  فدخلها وأخرج من في السجن وكثر جمعه . 
ورجع  إلياس  في طلبه ففارقه أكثر أصحابه وقصدوا حبيبا ، فعظم جيشه ، وخرج إليه فالتقيا ، فغدر أصحاب  إلياس  ، وبرز  حبيب  بين الصفين ، فقال له : ما لنا نقتل صنائعنا وموالينا ؟ ولكن ابرز أنت إلي فأينا قتل صاحبه استراح منه . فتوقف  إلياس  ثم برز إليه فاقتتلا قتالا شديدا تكسر فيه رمحاهما ثم سيفاهما ، ثم إن  حبيبا  عطف عليه فقتله ودخل القيروان  ، وكان ذلك سنة ثمان وثلاثين ومائة . 
وهرب إخوة  إلياس  إلى بطن من البربر  يقال لهم ورفجومة فاعتصموا بهم ، فسار إليهم  حبيب  فقاتلهم فهزموه ، فسار إلى قابس  ، وقوي أمر ورفجومة  حينئذ ، وأقبلت البربر  إليهم والخوارج  ، وكان مقدم ورفجومة  رجلا اسمه  عاصم بن جميل  ، ( وكان قد ادعى النبوة والكهانة ، فبدل الدين وزاد في الصلاة وأسقط ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأذان ، فجهز  عاصم     ) من عنده من العرب على قصد القيروان  ، وأتاه رسل جماعة من أهل القيروان  يدعونه إليهم ، وأخذوا عليه العهود والمواثيق بالحماية والصيانة والدعاء  للمنصور  ، فسار إليهم  عاصم  في البربر  والعرب ، فلما قاربوا القيروان  خرج من بها لقتالهم فاقتتلوا ، وانهزم أهل القيروان  ، ودخل  عاصم  ومن معه القيروان  ، فاستحلت ورفجومة  المحرمات ، وسبوا النساء والصبيان ، وربطوا دوابهم في الجامع وأفسدوا فيه . 
ثم سار  عاصم  يطلب  حبيبا  وهو بقابس  فأدركه واقتتلوا ، وانهزم  حبيب  إلى جبل  أوراس  فاحتمى به ، وقام بنصرة من به ، ولحق به  عاصم  فالتقوا واقتتلوا ، فانهزم  عاصم  وقتل هو وأكثر أصحابه ، وسار  حبيب  إلى القيروان  ، فخرج إليه  عبد الملك بن أبي الجعد  ، وقد قام بأمر ورفجومة  بعد قتل  عاصم  ، فاقتتل هو  وحبيب  ، فانهزم  حبيب  وقتل هو وجماعة من أصحابه في المحرم سنة أربعين ومائة . 
وكانت إمارة  عبد الرحمن بن حبيب  على إفريقية  عشر سنين وأشهرا ، وإمارة أخيه   [ ص: 327 ] إلياس  سنة وستة أشهر ، وإمارة ابنه  حبيب  ثلاث سنين . 
				
						
						
