فإن قال قائل : أيستمتع بها ولا تلزمه نفقة ؟ قلنا : الاستمتاع في مقابلة المهر كما هو مصرح به في كلامهم ، وكيف يتخيل أن النفقة تجب بمطلق الاستمتاع ، وقد قال صاحب التنبيه : ولا تجب النفقة إلا بالتمكين التام ؟ قال ابن الرفعة في الكفاية : احترز الشيخ بلفظ التام عما إذا قالت : أنا أسلم نفسي إليك ليلا دون النهار ، وفي نهار دون الليل ، أو في البلد الفلاني دون غيره ، أو في المنزل الفلاني ، فإن النفقة لا تجب بذلك ؛ إذ لم يحصل التمكين المقابل بالنفقة ، وقال : وصورة التمكين التام أن تقول : سلمت نفسي إليك ، فإن اخترت أن تصير إلي وتأخذني وتستمتع بي فذاك إليك ، وإن اخترت جئت إليك في أي مكان شئت أو ما يؤدي هذا المعنى .
وعبارة الشيخ في المهذب : إذا سلمت المرأة إلى زوجها ومكن من الاستمتاع بها ، ونقلها إلى حيث يريد وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح وجبت نفقتها ، فإن امتنعت من تسليم نفسها ، أو مكنت من استمتاع دون استمتاع ، أو في منزل دون منزل ، أو في بلد دون بلد لم تجب النفقة ؛ لأنه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة ، كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع ، أو سلم في موضع دون موضع .
[ ص: 267 ] وعبارة ابن الصباغ في الشامل : فإذا مكنت الزوجة من نفسها بأن تقول : سلمت نفسي إليك في أي مكان شئت فقد وجبت لها النفقة ، فأما إذا قالت : أسلم نفسي إليك في منزلي ، أو في الموضع الفلاني دون غيره لم يكن هذا تسليما تاما ، ولم تستحق النفقة ، كما لو قال البائع : أسلم إليك السلعة على أن تتركها في موضعها ، أو في مكان بعينه لم يكن تسليما يستحق به تسليم العوض إليه ؛ ولهذا قلنا : إن السيد إذا زوج أمته وسلمها ليلا دون النهار لم تستحق النفقة على الزوج ، فإنه لم يحصل التسليم التام .
وعبارة المحاملي في المجموع : وإنما يجب بالتمكين التام المستند إلى عقد صحيح ، فإذا قالت المرأة : مكنتك من نفسي ، فإن شئت أن تتركني في منزلي فافعل ، وإن شئت أن تنقلني إلى حيث شئت فافعل ، فإذا وجد ذلك استحقت النفقة ، وأما إذا لم يكن ذلك تمكينا تاما ، بأن قالت : أمكنك من نفسي في منزلي ، ولا أنتقل معك إلى موضع آخر فإنها لا تستحق النفقة بحال ، كالسيد إذا زوج أمته ولم يسلمها ليلا ولا نهارا ، بل قال : أسلمها بالليل دون النهار فإن النفقة لا تجب بذلك .
وعبارة في المرشد : إذا سلمت المرأة إلى زوجها ومكن من الاستمتاع بها ، ونقلها إلى حيث يريد ، وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح وجبت النفقة عليه ، وإن امتنعت من تسليم نفسها ، أو مكنت من استمتاع دون استمتاع ، أو في منزل دون منزل ، أو في بلد دون بلد لم تجب النفقة . ابن أبي عصرون
وعبارة سليم الرازي في الكفاية : وإذا لم تسلم نفسها إلى الزوج لم تستحق عليه نفقة ، وسواء امتنعت منه بكل حال ، أو قالت : أنتقل معك إلى محلة دون محلة ، وهكذا إن تزوج بها وسكت كل واحد منهما فلم يطلب الزوج أن تسلم نفسها ، ولم تطلب هي أن يتسلمها لم تستحق النفقة ، وإذا أرادت أن تسلم نفسها فإن كان الزوج حاضرا سلمت نفسها إليه ، بأن تقول : بذلت نفسي لك ، فإن شئت أن تردد إلي فافعل ، وإن شئت أن تنقلني إلى أي موضع أردت فافعل ، وإذا فعلت ذلك استحقت النفقة .
وعبارة صاحب البيان : إذا زوج الرجل أمته فليس عليه أن يرسلها مع زوجها ليلا ونهارا ، وإنما يجب عليه أن يرسلها معه بالليل دون النهار ، فإن اختار السيد إرسالها لزوجها ليلا ونهارا وجب على الزوج جميع نفقتها ؛ لأنه قد حصل له الاستمتاع التام ، وإن سلمها السيد بالليل دون النهار ففيه وجهان : من أصحابنا من قال : يجب عليه نصف نفقتها ، [ ص: 268 ] والمذهب أنه لا يجب عليه شيء من نفقتها ؛ لأنه لم يسلمها تسليما تاما ، فهو كما لو سلمت الحرة نفسها بالليل دون النهار ، أو في بيت دون بيت .
وعبارة في العمدة : إذا سلمت المرأة إلى زوجها وهي من أهل الاستمتاع ومكن من الاستمتاع بها ، ونقلها حيث يريد وجب عليه نفقتها ، وكذا عبارته في كتابه المسمى بالترغيب ، ثم رأيت الشاشي قال في الحاوي ما نصه : وأما التمكين فيشتمل على أمرين لا يتم إلا بهما ، أحدهما : تمكينه من الاستمتاع بها ، والثاني : تمكينه من النقلة معه حيث شاء في البلد الذي تزوجها فيه ، وإلى غيره من البلاد إذا كانت السبل مأمونة ، فلو مكنته من نفسها ولم تمكنه من النقلة معه لم تجب عليه النفقة ؛ لأن التمكين لم يكمل إلا أن يستمتع بها في زمان الامتناع من النقلة ، فتجب لها النفقة ، ويصير استمتاعه بها عفوا عن النقلة في ذلك الزمان هذه عبارته . الماوردي
وقد يتمسك بها من أفتى بخلاف ما أفتينا به ، بل أنا لما رأيتها توقفت كل التوقف ، ثم بان لي أنها لا تعارض ما تقدم وذلك أني رأيت اختار في النفقة طريقة ضعيفة خلاف الطريقة التي صححها الشيخان ، واعترف هو أن ما اختاره مخالف لما عليه الجمهور ، ولظاهر مذهب الماوردي فإنه اختار أنه لا يخلو استمتاع بزوجة عن نفقة وفرع على ذلك ، واختار في الأمة إذا سلمت ليلا لا نهارا أنه يجب لها القسط من النفقة ، وقال في الحرة الممتنعة من النقلة : إذا استمتع بها يجب لها نفقة زمن الاستمتاع على قياس قوله في الأمة : بالتقسيط ، ومعلوم أن هذه الطريقة في الأمة ضعيفة ، والمشهور أنه لا نفقة لها أصلا . الشافعي
وهذه عبارة : قال : الحالة الثانية أن يمكنها منها ليلا في زمان الاستمتاع ، ويمنعه منها نهارا في زمان الاستخدام ، فلا خيار للزوج في فسخ نكاحها إذا كان عالما برقها ؛ لأنه حكم مستقر في نكاح الأمة ، وفي نفقتها وجهان : أحدهما - وهو قول الماوردي ، وجمهور أصحابنا - أنه لا نفقة عليه لقصور استمتاعه عن حال الكمال ، والوجه الثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي - والأظهر عندي أن عليه من نفقتها بقسطه من زمان الاستمتاع ، وهو أن يكون على الزوج عشاؤها ، وعلى السيد غداؤها ؛ لأن العشاء يراد لزمان الليل ، والغداء يراد لزمان النهار ، وعليه من الكسوة ما تتدثر به ليلا ، وعلى السيد منه ما تلبسه نهارا ، وإنما تقسطت النفقة عليه ، ولم تسقط عنه من أجل وجود الاستمتاع ؛ لئلا يخلو استمتاع بزوجة من استحقاق نفقة - هذا لفظه بحروفه ، فانظر كيف رجح في مسألة الأمة خلاف ما رجحه الشيخان ، وكيف قال في الأول : أنه قول جمهور الأصحاب ، وفيما رجحه الأظهر [ ص: 269 ] عندي إشارة إلى أنه اختيار له خارج عما رجحه الجمهور ، وانظر كيف بنى أصله على أن الاستمتاع لا يخلو من نفقة ، وذلك غير لازم عند الجمهور ، ومنهم الشيخان ، فعرف أن قوله ذلك في الحرة بناء على أصله هو لا على طريقة الجمهور ، وقال أبي علي بن أبي هريرة أيضا بعد هذا الكلام بورقتين : فإن بوأها معه السيد منزلا ليلا ونهارا وجبت عليه نفقتها ، وإن منعه منها ليلا ونهارا سقطت نفقتها ، وكان السيد متعديا بمنعها منه في الليل دون النهار ، وإن بوأها معه ليلا ، واستخدمها نهارا لم يتعد ، وفي نفقتها ما قدمناه من الوجهين : أحدهما - وهو قول الماوردي المروزي - والظاهر من مذهب أنه يسقط عنه جميعها ، والثاني - وهو قول الشافعي وهو الأصح عندي - أنه يجب عليه من النفقة بقسطها من زمان الليل دون النهار ، وهو ما قابل العشاء دون الغداء انتهى . أبي علي بن أبي هريرة
وإنما قال في الأول : إنه الظاهر من مذهب ؛ لأنه نص عليه في المختصر كما تقدمت عبارته ، ثم تأمل عبارة الشافعي السابقة في الحرة ، تجده لم يوجب لها النفقة في كل الأيام ، إنما أوجب لها نفقة زمن الاستمتاع خاصة ، لقوله : ويصير استمتاعه بها عفوا عن النقلة في ذلك الزمان ، فقيده بقوله في ذلك الزمان ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما : أنه يجب لها إذا استمتع في يوم نفقة ذلك اليوم كله ، فعلى هذا إذا استمتع بها في منزلها أياما وترك ذلك أياما ، أو غاب عنها في البلد ، أو في سفر لم تستحق نفقة أيام الغيبة ولا أيام ترك الاستمتاع ، ولو كانت في منزله لاستحقت نفقة هذه الأيام كلها ، وهذا أغلظ ما يؤخذ من عبارة الماوردي وهي كالصريحة فيه . الماوردي
والثاني : أنه إذا استمتع بها في يوم لم تجب نفقة ذلك اليوم كله بل بالقسط ، فإن استمتع في النهار لزمه غداؤها دون العشاء ، أو في الليل لزمه عشاؤها دون الغداء ، كما هو قياس قوله في الأمة ، وهذا يرشد إليه قوله : ويصير استمتاعه بها عفوا عن النقلة في ذلك الزمان ، أي : في زمن الاستمتاع خاصة ، فلا يجب عليه إلا نفقته فقط ؛ لأن العفو مقصور عليه ، والنفقة عنده تقسيط ، فيجب ما قابل ذلك الزمن فقط إما الغداء أو العشاء ، وتبقى سائر الأوقات التي لم يستمتع بها وهي ممتنعة غير عفو فلا يجب لها شيء ، ولا شك أن كلا من المعنيين تحتمله عبارته .
ويحتمل أيضا أصل العبارة معنى ثالثا : وهو أنه لم يرد بذلك التي قالت : لا أسلم إلا في بيتي ، وإنما أراد من سلمت في منزله ، وبذلت له الطاعة ، ثم أراد أن ينقلها إلى منزل آخر ، أو يسافر بها إلى بلد آخر فامتنعت ، فإنه ما دام يستمتع بها في منزله الأول يجب لها النفقة استصحابا للطاعة السابقة ، والتسليم السابق مع تقويته بالاستمتاع ، بخلاف من قالت : لا أسلم إلا في بيتي فإنها لم تدخل تحت قهره وطاعته أصلا ، فلا يفيد الاستمتاع بها نفقة ، بل هو في [ ص: 270 ] هذه الصورة كالمحجور عليه من قبلها خلاف موضوع الزوجية ، ولا شك أن العرف قاض بأن للساكن بزوجته في بيت نفسه من الراحة والعز والسلطة وقوة النفس ما ليس للساكن في بيت زوجته أو عند أهلها ، والإنسان لا يكون أميرا في بيت غيره والزوج يحتاج إلى المباسطة مع زوجته ، ورفع الحشمة معها في الأقوال والأفعال ، وذلك لا يتأتى له وهي في منزل أهلها ، خصوصا إذا كانت الدار واحدة تجمع الجميع ، وهي في حجرة من حجرها وإن استقلت بمرافقها ، هذا أمر يعرفه كل أحد .
وقد ورد حديث مخرج في بعض الأجزاء الحديثية أن إبليس قال : إنما أحزن على الساكن في بيت زوجته ، ولا يحضرني الآن سنده ، وسأتبعه وألحقه ، ثم تذكرت عن شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناوي أنه كان يقول فيما إذا امتنعت الزوجة من النقلة ، وسكن الزوج في بيتها : ينبغي أن يعرض عليها النقلة في كل يوم ؛ ليتحقق امتناعها ، فإذا امتنعت سقطت نفقة ذلك اليوم ؛ لأن نشوز لحظة في اليوم يسقط نفقة كل اليوم ، وهذا الذي قاله شيخنا تحقيقا من عنده ، قصد به أن يتحقق امتناعها من النقلة في كل يوم لاحتمال أن تكون رجعت عن الامتناع ، ويكون سكن الزوج في منزلها باختيار نفسه ، وهي بحيث لو طلبت منها لأجابت ، فإنها في هذه الحالة تستحق النفقة بلا شك ، والذي أقوله : أن ما قاله شيخنا محمول على الاستحباب والاستظهار ، لبراءة الذمة لأجل هذا الاحتمال لا على الوجوب ؛ لأن الأصل بقاؤها على الامتناع إلى أن يتيقن منها الطاعة صريحا .