قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم )
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : ( ) : الساقط الذي لا يعتد به، سواء كان كلاما أو غيره، أما ورود هذه اللفظة في الكلام، فيدل عليه الآية والخبر والرواية، أما الآية فقوله تعالى : ( اللغو وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ) [القصص : 55] ، وقوله : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ) [الواقعة : 25] ، وقوله : ( لا تسمعوا لهذا القرآن ) [فصلت : 26] ، وقوله : ( عالية لا تسمع فيها لاغية ) [الغاشية : 11] ، أما قوله : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) [الفرقان : 72] فيحتمل أن يكون المراد : وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغوا، وأن يكون المراد : وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغوا.
وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم : " ". من قال يوم الجمعة لصاحبه : صه ، والإمام يخطب فقد لغا
وأما الرواية فيقال : لغا الطائر يلغو لغوا : إذا صوت، ولغو الطائر : تصويته، وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام، فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل : لغو، قال جرير :
يعد الناسبون بني تميم بيوت المجد أربعة كبارا وتخرج منهم المرئي لغوا
كما ألغيت في الدية الحوارا
وقال العجاج :
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
قال الفراء : اللغا، مصدر للغيت، و (اللغو) مصدر للغوت، فهذا ما يتعلق باللغة.
أما المفسرون فقد ذكروا وجوها :
الأول : قال رضي الله عنه : إنه قول العرب : لا والله، وبلى والله، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة ، لأنكر ذلك، ولعله قال : لا والله ، ألف مرة . الشافعي
والثاني : وهو قول رضي الله عنه : أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن ، فهذا هو اللغو، وفائدة هذا الاختلاف أن أبي حنيفة لا يوجب الكفارة في قول الرجل : لا والله وبلى والله ، ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن. الشافعي يحكم بالضد من ذلك . ومذهب وأبو حنيفة هو قول الشافعي عائشة والشعبي وعكرمة . وقول هو قول أبي حنيفة ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والسدي ومكحول . حجة رضي الله عنه على قوله وجوه ، الأول : ما روت الشافعي رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عائشة " وروي لغو اليمين قول الرجل في كلامه : كلا والله، وبلى والله، ولا والله " . وعن أنه صلى الله عليه وسلم مر [ ص: 67 ] بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه ، فرمى رجل من القوم، فقال : أصبت والله. ثم أخطأ، ثم قال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم : " كل أيمان الرماة لغو ، لا كفارة فيها ولا عقوبة أنها قالت : أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب . وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة. عائشة
الحجة الثانية : أن قوله : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) يدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب، ولكن المراد من قوله : ( بما كسبت قلوبكم ) هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام : لا والله ، بلى والله، فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلا ثم ظهر أنه لم يكن ، فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك، فلم يكن ذلك لغوا البتة ، بل كان حاصلا بكسب القلب.
الحجة الثالثة : أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) وقد ذكرنا أن معناه النهي عن وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد : لا والله وبلى والله ، لا شك أنهم يكثرون الحلف، فذكر تعالى عقيب قوله : ( كثرة الحلف واليمين، ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام ، لا على سبيل القصد إلى الحلف، وبين أنه لا مؤاخذة عليهم ولا كفارة؛ لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم في كل لحظة كفارة ، وكلاهما حرج في الدين ، فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية، فأما الذي قاله رضي الله عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية ، فكان تأويل أبو حنيفة أولى. الشافعي
حجة رضي الله عنه من وجوه : أبي حنيفة
الحجة الأولى : قوله صلى الله عليه وسلم : " " الحديث دل على وجوب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه . الكفارة على الحانث مطلقا من غير فصل بين المجد والهازل
الحجة الثانية : أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق، فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس : لا والله، بلى والله، إذا حصل الحنث، ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال ويجب تفسيره بما قاله الشافعي، أن أبو حنيفة ، قال الشاعر : اليمين في اللغة عبارة عن القوة
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة.
والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين، وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلا للتقوية، وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية البتة، فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها، والخالي عن المطلوب يكون لغوا، فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي، وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية، فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها ، فلا تكون لغوا.
[ ص: 68 ]
القول الثالث في : هو أنه إذا تفسير يمين اللغو فهذا هو يمين اللغو ، وهو المعصية. قال تعالى : ( حلف على ترك طاعة أو فعل معصية، وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ) [القصص : 55] فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان، ثم قال : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية، قالوا : وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام : " " ، وهذا التأويل ضعيف من وجهين : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر
الأول : هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته ) [المائدة : 89] ، ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة ، وهاهنا الكفارة واجبة ، علمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة .
الثاني : أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب، ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه ؛ لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد، فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب.
القول الرابع في تفسير يمين اللغو : أنها اليمين المكفرة ، سميت لغوا لأن الكفارة أسقطت الإثم، فكأنه قيل : لا يؤاخذكم الله باللغو إذا كفرتم، وهذا قول الضحاك .
القول الخامس ، وهو قول القاضي : أن المراد به ما يقع سهوا غير مقصود إليه، والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) أي يؤاخذكم إذا تعمدتم، ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو.