الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( نقاتل في سبيل الله ) فاعلم أنه قرئ ( نقاتل ) بالنون والجزم على الجواب ، وبالنون والرفع على أنه حال ، أي : ابعثه لنا مقدرين القتال ، أو استئناف كأنه قيل : ما تصنعون بالملك ، قالوا : نقاتل ، وقرئ بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة لقوله : (ملكا) أما قوله : ( قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ نافع وحده (عسيتم) بكسر السين ههنا ، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابي أنهم يقولون : هو عسي بكذا وهذا يقوي (عسيتم) بكسر السين ، ألا ترى أن (عسي بكذا) ، مثل حري وشحيح ؟ وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة فقال : لو جاز ذلك لجاز ( عسي ربكم ) أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة ، وليست الياء من ( عسي ) كذلك ، لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة ، وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب الثاني : هب أن القياس يقتضي جواز ( عسي ربكم ) إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان ، فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : خبر ( هل عسيتم ) هو قوله : ( ألا تقاتلوا ) والشرط فاصل بينهما ، والمعنى : هل قاربتم أن تقاتلوا ؛ بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل ( هل ) مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون ، وأراد بالاستفهام التقرير ، وثبت أن المتوقع كائن له ، وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) معناه التقرير ، ثم إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا : ( وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ) وهذا يدل على ضمان قوي خصوصا وأتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك ، وهو قولهم : ( وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : المشهور أنه يقال : ما لك تفعل كذا ؟ ولا يقال : ما لك أن تفعل كذا ؟ قال تعالى : ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) [ نوح : 13 ] وقال : ( وما لكم لا تؤمنون بالله ) [ الحديد : 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو قول المبرد : أن (ما) في هذه الآية جحد لا استفهام ، كأنه قال : ما لنا نترك القتال ، وعلى هذا الطريق يزول السؤال .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 146 ] الوجه الثاني : أن نسلم أن ( ما ) ههنا بمعنى الاستفهام ، ثم على هذا القول وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الأخفش : (أن) ههنا زائدة ، والمعنى : ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف ، لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال الفراء : الكلام ههنا محمول على المعنى ، لأن قولك : ما لك لا تقاتل ؟ معناه : ما يمنعك أن تقاتل ؟ فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال (أن) فيه ، قال تعالى : ( ما منعك أن تسجد ) [ ص : 75 ] وقال : ( ما لك ألا تكون مع الساجدين ) [ الحجر : 32 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال الكسائي : معنى ( وما لنا ألا نقاتل ) : أي شيء لنا في ترك القتال ؟ ثم سقطت كلمة ( في ) ، ورجح أبو علي الفارسي قول الكسائي على قول الفراء ، قال : وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر ، والتقدير : ما يمنعنا من أن نقاتل ، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره ، وعلى قول الفراء لا يبقى ، فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( فلما كتب عليهم القتال تولوا ) فاعلم أن في الكلام محذوفا تقديره : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال فتولوا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( إلا قليلا منهم ) فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم ، وقيل : كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر ( والله عليم بالظالمين ) أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه ، وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك : ( وقاتلوا في سبيل الله ) فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم ، والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجرا عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثا على الجهاد ، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية