الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 38 ]

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الخامس من الحجة : أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) [المائدة : 91] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر ، وهذا التعليل يقيني ، فعلى هذا تكون هذه الآية نصا في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة ، فأما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر ، وكل من أنصف وترك العناد ، علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) [النحل : 67] من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن ، وما نحن فيه سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحا ; لأن المنة لا تكون إلا بالمباح .

                                                                                                                                                                                                                                            والحجة الثانية : ما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها وقال : اسقوني ، فقال العباس : ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا ؟ فقال : ما تسقي الناس ؟ فجاءه بقدح من نبيذ فشمه ، فقطب وجهه ورده ، فقال العباس : يا رسول الله ، أفسدت على أهل مكة شرابهم . فقال : ردوا علي القدح ، فردوه عليه ، فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب ، وقال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا نتنها بالماء .

                                                                                                                                                                                                                                            وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد ؛ ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص ، ولأن اغتلام الشراب شدته ، كاغتلام البعير سكره .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : التمسك بآثار الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن قوله تعالى : ( تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) [النحل : 67] نكرة في الإثبات ، فلم قلتم : إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ ؟ ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر ، فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة ، أو مخصصة لها .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماء نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلا إلى الحموضة ، وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم ، فلذلك قطب وجهه ، وأيضا كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القدر من الحموضة أو الرائحة ، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة ، فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام ، فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر .

                                                                                                                                                                                                                                            المقام الثاني : في بيان أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم ، والإثم حرام ؛ لقوله تعالى : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ) [الأعراف : 33] فكان مجموع هاتين الآيتين دليلا على تحريم الخمر .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الإثم قد يراد به العقاب ، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب ، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه تعالى قال : ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) صرح برجحان الإثم والعقاب ، وذلك يوجب التحريم . [ ص: 39 ]

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم ، بل تدل على أن فيه إثما ، فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم : إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراما ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لأن السؤال كان واقعا عن مطلق الخمر ، فلما بين تعالى أن فيه إثما ، كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات ، فكان شرب الخمر مستلزما لهذه الملازمة المحرمة ، ومستلزم المحرم محرم ، فوجب أن يكون الشرب محرما ، ومنهم من قال : هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر ، واحتج عليه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس ، والمحرم لا يكون فيه منفعة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه تعالى أخبر أن فيهما إثما كبيرا فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلا ما داما موجودين ، فلو كان ذلك الإثم الكبير سببا لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع من كونه محرما ، ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعا من حرمتهما ; لأن صدق الخاص يوجب صدق العام .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثاني : أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر ، والتوقف الذي ذكرته غير مروي عنهم ، وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم ، كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكونا وطمأنينة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثالث : أن قوله : ( فيهما إثم كبير ) إخبار عن الحال لا عن الماضي ، وعندنا أن الله تعالى علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان ، وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة . فهذا تمام الكلام في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية