أما قوله : ( نقاتل في سبيل الله ) فاعلم أنه قرئ ( نقاتل ) بالنون والجزم على الجواب ، وبالنون والرفع على أنه حال ، أي : ابعثه لنا مقدرين القتال ، أو استئناف كأنه قيل : ما تصنعون بالملك ، قالوا : نقاتل ، وقرئ بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة لقوله : (ملكا) أما قوله : ( قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحده (عسيتم) بكسر السين ههنا ، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه أنهم يقولون : هو عسي بكذا وهذا يقوي (عسيتم) بكسر السين ، ألا ترى أن (عسي بكذا) ، مثل حري وشحيح ؟ وطعن ابن الأعرابي أبو عبيدة في هذه القراءة فقال : لو جاز ذلك لجاز ( عسي ربكم ) أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين :
الأول : أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة ، وليست الياء من ( عسي ) كذلك ، لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة ، وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى .
والجواب الثاني : هب أن القياس يقتضي جواز ( عسي ربكم ) إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان ، فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر .
المسألة الثانية : خبر ( هل عسيتم ) هو قوله : ( ألا تقاتلوا ) والشرط فاصل بينهما ، والمعنى : هل قاربتم أن تقاتلوا ؛ بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل ( هل ) مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون ، وأراد بالاستفهام التقرير ، وثبت أن المتوقع كائن له ، وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) معناه التقرير ، ثم إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا : ( وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ) وهذا يدل على ضمان قوي خصوصا وأتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك ، وهو قولهم : ( وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته .
فإن قيل : المشهور أنه يقال : ما لك تفعل كذا ؟ ولا يقال : ما لك أن تفعل كذا ؟ قال تعالى : ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) [ نوح : 13 ] وقال : ( وما لكم لا تؤمنون بالله ) [ الحديد : 8 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : وهو قول : أن (ما) في هذه الآية جحد لا استفهام ، كأنه قال : ما لنا نترك القتال ، وعلى هذا الطريق يزول السؤال . المبرد
[ ص: 146 ] الوجه الثاني : أن نسلم أن ( ما ) ههنا بمعنى الاستفهام ، ثم على هذا القول وجوه :
الأول : قال الأخفش : (أن) ههنا زائدة ، والمعنى : ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف ، لأن . القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل
الثاني : قال الفراء : الكلام ههنا محمول على المعنى ، لأن قولك : ما لك لا تقاتل ؟ معناه : ما يمنعك أن تقاتل ؟ فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال (أن) فيه ، قال تعالى : ( ما منعك أن تسجد ) [ ص : 75 ] وقال : ( ما لك ألا تكون مع الساجدين ) [ الحجر : 32 ] .
الثالث : قال الكسائي : معنى ( وما لنا ألا نقاتل ) : أي شيء لنا في ترك القتال ؟ ثم سقطت كلمة ( في ) ، ورجح أبو علي الفارسي قول الكسائي على قول الفراء ، قال : وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر ، والتقدير : ما يمنعنا من أن نقاتل ، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره ، وعلى قول الفراء لا يبقى ، فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى .
أما قوله : ( فلما كتب عليهم القتال تولوا ) فاعلم أن في الكلام محذوفا تقديره : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال فتولوا .
أما قوله : ( إلا قليلا منهم ) فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم ، وقيل : كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر ( والله عليم بالظالمين ) أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه ، وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك : ( وقاتلوا في سبيل الله ) فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم ، والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجرا عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثا على الجهاد ، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك ، والله أعلم .