ثم قال الله تعالى : ( وكفلها زكريا ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : كفل يكفل كفالة وكفلا فهو كافل ، وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه ، وفي الحديث " أنا وكافل اليتيم كهاتين " وقال الله تعالى : ( أكفلنيها ) [ص : 23] .
المسألة الثانية : قرأ عاصم وحمزة والكسائي " وكفلها " بالتشديد ، ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد ، وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا ، فمن قرأ " زكرياء " بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرءوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه وهو الاختيار ، لأن هذا مناسب لقوله تعالى : ( أيهم يكفل مريم ) [ آل عمران : 44] وعليه الأكثر ، وعن ابن كثير في رواية " كفلها " بكسر الفاء ، وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان ، كالهيجاء والهيجا ، وقرأ " فتقبلها ربها ، وأنبتها ، وكفلها " على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ، ونصب ( ربها ) كأنها كانت تدعو الله فقالت : اقبلها يا ربها ، وأنبتها يا ربها ، واجعل مجاهد زكريا كافلا لها .
المسألة الثالثة : اختلفوا في كفالة زكريا - عليه السلام - إياها متى كانت ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفوليتها ، وبه جاءت الروايات ، وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن فطمت ، واحتجوا عليه بوجهين : الأول : أنه تعالى قال : ( وأنبتها نباتا حسنا ) ثم قال : ( وكفلها زكريا ) وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن . والثاني : أنه تعالى قال : ( وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة ، وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الإنبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معا .
وأما الحجة الثانية : فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة .