الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( والله شهيد على ما تعملون ) الواو للحال والمعنى : لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام ، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترءوا على الكفر بآياته .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 138 ] ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال : ( قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن ) قال الفراء : يقال صددته أصده صدا وأصددته إصدادا ، وقرأ الحسن (تصدون) بضم التاء من أصده ، قال المفسرون : وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته صلى الله عليه وسلم في كتابهم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( تبغونها عوجا ) العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى ، وهو الدين والقول ، فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه : عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة ، قال ابن الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك : بغيت المال والأجر والثواب ، وأريد هاهنا : تبغون لها عوجا ، ثم أسقطت اللام كما قالوا : وهبتك درهما أي وهبت لك درهما ، ومثله صدت لك ظبيا وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                            فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا



                                                                                                                                                                                                                                            أراد أصيد لكم والهاء في ( تبغونها ) عائدة إلى ( السبيل ) لأن السبيل يؤنث ويذكر و ( العوج ) يعني به الزيغ والتحريف ، أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم : النسخ يدل على البداء ، وقولهم : إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد ، وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون ( عوجا ) في موضع الحال والمعنى : تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى : إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وأنتم شهداء ) وفيه وجوه . الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام . الثاني : وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته صلى الله عليه وسلم . الثالث : وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله . الرابع : وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار . والمعنى : أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وما الله بغافل عما تعملون ) والمراد التهديد ، وهو كقول الرجل لعبده ، وقد أنكر طريقه لا يخفى علي ما أنت عليه ولست غافلا عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله : ( والله شهيد ) وهذه الآية بقوله : ( وما الله بغافل عما تعملون ) وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين ، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه ( والله شهيد ) وفيما أضمروه ( وما الله بغافل عما تعملون ) وإنما كرر في الآيتين قوله : ( قل ياأهل الكتاب ) لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه ، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية